قبل سنوات طلب مني جاري توصيله وزوجته إلى قسم الطوارئ بالمستشفى، في نحو الثامنة مساء، لأنها كانت تشكو من ألم حاد في البطن، وكان منزعجاً لأنها كانت حاملاً في أشهرها الأولى.. وبعد وصولنا إلى المستشفى بدقائق كان قد نجح في عرض زوجته على الطبيب، وعدت بهما الى بيتهما.. قال ان الطبيب أبلغهما بأن الألم الذي تحس به عادي في مثل تلك المرحلة من الحمل، وطلب منها تناول قرص فينرقان (مضاد للهستامين يسكن بعض الآلام).. وفي نحو الثالثة صباحا جاءني جاري مجدداً طالباً توصيله وزوجته إلى المستشفى لأن أوجاعها في البطن استفحلت.. وفي نحو السادسة صباحا كانت زوجته قد دخلت غرفة العمليات لاستئصال زائدة دودية موشكة على الانفجار.. وربك ستر ولم تفقد الأم الجنين بسبب التخدير والجراحة.. وبعد الاطمئنان على سلامتها ذهبنا الى قسم الطوارئ حيث عثرنا على الطبيب الذي أفتى بأنها لا تعاني من علة ذات خطورة حتى قبل أن تكمل شكواها، وأبلغناه بأمر الجراحة العاجلة التي خضعت لها.. أحس الرجل ببعض الحرج وقال: مثل هذه الأشياء «تحصل» لطبيب مثلي ظل يعمل 36 ساعة متواصلة، ويتعامل خلال الساعة الواحدة مع نحو عشرين مريضا ومصابا في حين أنه من المفترض من الناحية النظرية أن نعطي كل مريض نحو خمس عشرة إلى عشرين دقيقة، أي بواقع أربعة مرضى في الساعة على أبعد تقدير.
قرأت مؤخراً في صحيفة «ذا تايمز» اللندنية عرضا لكتاب «كيف يفكر الأطباء» How Doctors Think للدكتور جيروم قروبمان المحاضر في كلية الطب بجامعة هارفارد الأمريكية، ويتناول فيه كيف يرتكب الأطباء أخطاء قاتلة أحيانا في التشخيص وتوصيف العلاج.. ويحكي عن تجربته الشخصية كطبيب شاب في مستشفى ماساشوستس العام عندما دخلت عليه امرأة في الثلاثينات من العمر.. يقول قروبمان ما معناه: عندما رأيتها استعذت من الشيطان، فقد كانت كثيرة الشكوى من آلام في البطن والصدر والكتف والظهر والرأس.. وما أن بدأت الموال المعتاد، حتى استنتجت أنها تعاني من عسر هضم ووصفت لها الدواء اللازم.. وبعدها بيومين كنت في قسم الطوارئ بالمستشفى عندما رأيت تلك المرأة النقناقة في حالة غيبوبة.. كانت تعاني من انفجار في الشريان الكبير الذي يغذي القلب بالدم.. وماتت في غضون ساعات.. وطوال أكثر من 30 سنة لم أنس تلك المرأة ولم أغفر خطئي وتقصيري معها. في الدول المتقدمة مجالس طبية تحاسب الأطباء على التقصير وقد يصل الجزاء الى الشطب من السجلات والحرمان من ممارسة الطب مدى الحياة.. وبما أن بلداننا مكبات قمامة، فإنه يسهل على الأطباء الممنوعين من ممارسة الطب في بلدانهم، العمل في مستشفياتنا بأرفع الألقاب، وبرواتب لا تحلم بها الكوادر الوطنية التي تضاهيها مؤهلات وخبرة .. وأحيي وزارة العمل التي تضامنت مع السعوديين الذين يخوضون معركة لمساواتهم بالأجانب العاملين في بلدهم فما أقسى الظلم عندما يأتي من ذوي القربى!