ليست المرة الأولى التي أتناول فيها حقوق أعضاء هيئة التدريس بالجامعات السعودية ولا أعتقد أنها ستكون الأخيرة، فقد تناولت قبل أشهر قضية البدلات التي شغلت حيزا كبيرا من تفكير المسؤولين بوزارة المالية «أعانهم الله»، وما استجد هو قيام الوزارة فعلا بإيقاف بدل الحاسب الآلي والذي يتراوح ما بين 20-25% من الراتب، وقد جاء هذا الخبر محبطا ومخيبا للآمال بعد صرفه لعقد من الزمن، والذي لا يعلمه «وربما يعلمه» المسؤولون بالوزارة أن غالبية أعضاء هيئة التدريس لديهم التزامات مالية تأسست على هذا البدل، وبالتالي فإن توقف صرفه سيؤثر كثيرا على حياتهم المعيشية، لقد مثل لهم هذا البدل حافزا قويا لتجويد العملية التعليمية من خلال استخدام هذه التقنية، وهو التوجه الذي اقترن بسعي الدولة الحثيث للتحول نحو الحكومة الإلكترونية، ودعمها لكل ما يساعد في تحقيق ذلك الهدف.
ولكوني أحد منسوبي جامعة الملك عبد العزيز ـ وهي أحد هذه الصروح التي تبنت منظومة التعليم الإلكتروني ـ أضرب مثلا بدور الحاسب الآلي في العملية التعليمية؛ حيث يلاحظ المنتسبون لهذه الجامعة أنها تخلصت من كل ما هو ورقي، بدءا من عملية القبول الإلكتروني للطلاب وإصدار بطاقات القبول إلكترونيا، يلي ذلك تسجيل هؤلاء الطلاب للمواد العلمية من خلال أنظمة متقدمة متاحة على موقع الجامعة على الشبكة العنكبوتية، من ناحية أخرى تلزم إدارة الجامعة أعضاء هيئة التدريس بتوفير المادة العلمية على مواقعهم الإلكترونية، وتحفزهم على استخدام الحاسب الآلي في عملية التدريس من خلال توفيرها لعشرات القاعات الذكية في كل كلية ومرفق، كما أنها وفرت أفضل نظم التعليم عن بعد من خلال نظام «البلاك بورد» والذي يطبق في أعرق الجامعات العالمية، وأخيرا وليس آخرا قامت الجامعة بتوفير جميع المعلومات التي يحتاجها عضو هيئة التدريس عن الطالب ومنها نظام ترصيد الدرجات وذلك عبر نظام «أوديس» والذي يمكنهم من رصد الدرجات من أي مكان داخل المملكة أو خارجها، وبحيث تظهر نتائج الطلاب خلال ثوانٍ من عملية الترصيد.
للأسف لقد توجت هذه الجهود والإنجازات اللافتة بإلغاء بدل الحاسب الآلي! لقد بررت وزارة المالية ذلك بأن هذا البدل يعطى فقط للمتخصصين في الحاسب الآلي، وهي حجة أشعر أنها تتناقض مع نفسها، فإن كان البدل يعطى للمتخصصين فهذا لا يعد «بدل حاسب آلي» وإنما بدل «ندرة»، وفي حال صرفه فقط للمتخصصين فإن هذا يعد ازدواجية في الصرف، لأن الجميع بما فيهم المتخصصون يحصلون على بدل ندرة، لذلك فالتفسير الأدق هو أنه لتحفيز أعضاء هيئة التدريس لاستخدام هذه التقنية للارتقاء بالعملية التعليمية، وهو ما تحقق بالفعل، لقد أصبحت هذه البدلات كألوان الطيف كل مسؤول يراها حسب اللون المحبب له.
يعتقد البعض خطأ أن وظيفة عضو هيئة التدريس تقتصر فقط على التدريس، لكن هذه الوظيفة هي فقط جزء من عمله، فهو ملزم بالقيام بالأبحاث لتطوير ذاته في مجال تخصصه، ويعد استخدام الحاسب أحد الركائز الأساسية لتحقيق ذلك، فلا يمكن إكمال بحث علمي موثق دون الاعتماد على هذه التقنية، إن استمرار التعنت في إلغاء هذه البدلات سيزيد من معدلات تقاعد أعضاء هيئة التدريس، وما ستتكبده الدولة من تكلفة لتتمكن من سد الفجوة التي سيخلفها المتقاعدون سيفوق أضعاف هذا البدل، والخاسر الأكبر في النهاية هو المنظومة التعليمية، والتي بفقدانها لثرواتها العلمية ونخبها الفكرية تكون قد بدأت أولى مراحل الإفلاس الحقيقي.
تقوم وزارة التعليم حاليا بإعداد نظام جديد للجامعات، وفي هذا السياق آمل أن يعي المسؤلون بالوزارة أن الرضا الوظيفي واحتياجات عضو هيئة التدريس أهم بكثير من لوائح ستصدر لتحدد من له صلاحية تعيين هذا العميد أو ذاك الوكيل أو أو..، هذه أمور لا تعنينا كثيرا، إن عضو هيئة التدريس هو الأصل والركيزة وصلب العملية التعليمية، ولو استهترنا وفرطنا في ثرواتنا الفكرية ومصادرنا العلمية فلن تجد الأجيال القادمة من يمد لها العون ومن يضيء لها الطريق، وسنكون أغلقنا بأيدينا بوابتنا المعرفية نحو المستقبل ومحونا كل أمل في حياة أفضل لنا وللأجيال القادمة من بعدنا.