-A +A
فهيم الحامد (الرياض) Falhamid2@
دبلوماسية قصر الإليزيه ليست حديثة عهد باللعبة الجيوسياسية في المنطقة، ولطالما كان لفرنسا ثقلها في الشرق الأوسط.. وقبل عدة أيام أطلت الدبلوماسية الفرنسية برأسها من جديد، من خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت حيث حمل شروطا لمد يد المساعدة إلى الحكومة اللبنانية الجديدة، وكان ماكرون واضحا شفافا عندما قال: «إن فرنسا لا تحمل شيكا على بياض للبنانيين لإخراج لبنان من أزماته».. ووصفت أوساط دبلوماسية في بيروت السياسة الفرنسية بأنها تتسم بالواقعية.

لقد أدرك صناع القرار في أروقة الإليزيه أن الفراغ الذي تركته باريس في المنطقة وتحديدا في لبنان سيعوض عنه بلاعبين جدد. واستبق ماكرون زيارته الأولى إلى لبنان بعد تفجير مرفأ لبنان بالتحذير من نشوب حرب أهلية في بلد الأرز، وقال من باريس «إذا تخلينا عن لبنان في المنطقة وإذا تركناه بطريقة ما في أيدي قوى إقليمية فاسدة، فستندلع حرب أهلية، وسيؤدي ذلك إلى تقويض الهوية اللبنانية». لذا سارع الرئيس ماكرون إلى التموضع والحوار مع كل الأطراف من خلال إدراكه ضرورة تقديم الدعم للبنان، وقد يكون هذا الدعم لكون فرنسا شريكا استراتيجيا مهما للدول العربية وتستطيع كبح جماح التغول التركي أيضا في شمال أفريقيا وشرق المتوسط وبحر إيجه. هذا ما أكده إيمانويل ماكرون في بغداد، إذ اختار العراق ليكون المحطة الثانية في جولته التي كانت بمثابة «عودة» لفرنسا إلى الشرق الأوسط، بعد أن كانت «خارج اللعبة» لفترة طويلة، ففرنسا تقدم نفسها للعراق كصديق وكثقل موازن، لاستعادة موطئ قدم لها تدريجيا في بلد كانت حاضرة فيه في حقبة صدام حسين، وكونها تحتفظ بصداقات تاريخية مع الأكراد، وعضويتها في التحالف الدولي ضد داعش.


مراقبون فرنسيون يرون ضرورة إعادة عجلة دبلوماسية النفوذ الفرنسية في منطقة لاضطراباتها عواقب في قلب أوروبا، وتعزيز دور فرنسا حاليا في منطقة الشرق الأوسط، إذ تدرك باريس جيدا أن الإدارة الأمريكية ستكون غائبة بعض الوقت عن الشرق الأوسط بسبب الانتخابات خلال الأشهر القادمة.

الحراك الفرنسي في المنطقة، بدءا من لبنان وصولا إلى العراق -قد يمتد هذا الحراك إلى ليبيا- يثير اهتماما كبيرا في الأوساط الغربية.

أكثر من سؤال يطرحه المراقبون: هل فعلا تعمل الدبلوماسية الفرنسية على الإنقاذ؟ أم أن فرنسا تفتش عن دورها الضائع في الشرق الأوسط لتعيد بناءه انطلاقا من البوابتين اللبنانية والعراقية؟ خصوصا أن ماكرون استنتج من خلال الرؤية الجديدة إلى الوضع في الشرق الأوسط، أن استمرار تشرذم العراق وإنتاجه للمتشددين يعد خطرا على فرنسا، وهو خطر لا يستهان به. وتبقى فرنسا منخرطة جدا في مكافحة الإرهاب والمتطرفين في المنطقة.

من لبنان إلى العراق تحرك إيمانويل ماكرون في جولة مكوكية من بلد يعيش أزمة سياسية اقتصادية داخلية خانقة إلى آخر يعيش نفس الأزمة بل وأكثر تازما، ضاقوا ذرعا بالفساد وسوء الإدارة وانسداد الأفق وسئموا الانقسامات الطائفية والعرقية.

لكن إذا كان التاريخ يسمح بأن تضع فرنسا نفسها في قلب اللعبة السياسية في لبنان بحكم تاريخ فرنسا في هذا البلد، فإن الأمر يختلف تماما في بغداد التي ما زالت تواجه «داعش» التي تعيش تحت الرماد وطموح النظام الإيراني بالانقلاب على حكومة الكاظمي لإعادة بسط سيطرتها عليه.

الزيارة القصيرة لماكرون، ستسمح له برسم الاستراتيجية الفرنسية في الشرق الأوسط المعقد الذي يشهد إعادة تنظيم كامل، فالعراق يقع في قلب هذه التحولات الاستراتيجية، وهو عالق وسط النفوذ الإيراني، ونفس الحالة في لبنان الذي يعيش رهن تركات ثقيلة.

ماكرون عازف بيانو متمرس، قفزاته إلى عالم السياسة الواسع لافتة، في عمر لم يسبقه إليه سياسي من قبل وهو ما يزال في عامه الثامن والثلاثين.