ناصر العمري
ناصر العمري
-A +A
ناصر بن محمد العُمري *
شهد المجتمع السعودي خلال الستين عاما الماضية تحولات عدة تبعاً للمتغيرات الثقافية والاقتصادية التي عشناها وكان لها تأثيرها الاجتماعي الواضح على صعيد الشكل والمضمون وصبغت التحولات الإنسان السعودي بصفات ظاهرة.

رصد تلك التحولات والغوص فيها من منظور ثقافي واجتماعي وتاريخي ينطوي على متعة كبيرة ولاشك، كما أنه يمنحنا تصورا وافرا عن كينونة الإنسان السعودي واستعداداته الفطرية لقبول التحولات، كما أنها تشكل مادة ثرية يمكن من خلالها استنتاج توقعات عن تحولات قادمة منتظرة.


ولأن الدراما تختصر الكثير من الوقت فهي الأقدر على تقديم التاريخ الاجتماعي وتجسيده وإبقائه في الذاكرة من خلال الصورة والمشهد، لذا فقد تفوقت على كل المؤسسات الأخرى، سواء الجهات العلمية، كالجامعات أو الوزارات الرسمية المعنية بالشأن المجتمعي وساهمت الدراما في توثيق تلك التحولات بتمكن عبر كاركترات اختصرت الكثير مما يمكن أن يقال عن التحولات. ففي البداية وفي مرحلة ما قبل النفط كان النموذج للشخصية السعودية هو «القروي البسيط» وجسده نموذج «سعيدان وعليان» في «طاش»، «وأبوالعيدات» في مسلسل «عيد وسعيد»، كنماذج تقربنا من صورة القروي والتي كانت تعبر عن الجهل التعليمي والوضع الاقتصادي المتدني والسلم الاجتماعي ومن أهم مظاهرها لبس الطاقية وإهمال نظافة الأسنان والشعر المسترسل وعدم الاهتمام بالشكل العام وحلاقة شعر الرأس بالموس.

هذه المرحلة اخفتها المدينة ثم جاءت مرحلة الصحوة سريعاً لتسيطر على الفضاء العام للشخصية بإحلال شخصية أخرى من أبرز مظاهرها عدم «لبس العقال» والثوب الأبيض القصير مع الشماغ والسواك ودهن العود مع إطالة اللحية وأصبحت مظهراً عاما. واستمر هذا النموذج طاغيا ويتمدد حتى غزو العراق للكويت ثم حدثت تفجيرات إرهابية. تم ربطها بهذا النموذج فبدأ التحول عن تلك الشخصية وإن لم تختف تماماً، والملاحظ أن تجسيد هذا النموذج درامياً أشغل الرأي العام وشهد الكثير من الجدل والمد والتجاذبات التي بلغت حد الصراع والتقاضي كما يلاحظ أن النموذج السمة تغلبت على الكاركتر، إذ لم يتم إنتاج شخصية تمثله وترتبط به على غرار «عليان وسعيدان» أو «الشيخ فؤاد» أو «مناحي»وتم الاكتفاء بالتركيز على الأبعاد النفسية والهيئة الخارجية ومظاهر اللبس.

الأحداث والمتغيرات توالت وأفرزت على أنقاض هذا النموذج توجها اجتماعيا آخر يحاول الدفع بنموذج القبيلة للواجهة وعززت القنوات الفضائية هذه الظاهرة التي يمكن وصفها بظاهرة «التبدون» وهي إعادة إحياء النموذج البدوي العصري عبر أناس يسكنون المدن، لكنهم يخرجون خارجها للسكن في خيام شبه دائمة فتجدهم أمام الخيمة وداخلها بأحدث أنواع الإضاءة والسيارات الفخمة والقناة الفضائية تبث برامجها للبدوي الجديد.

ومن أهم مظاهرالتبدون تربية الإبل وشرب حليبها وإقامة الأسواق لها والمسابقات التي تنقل المنقيات بالتزامن مع السكن في الخيمة وتنكيس العقال والبشت الوبر مع ميل لقرض الشعر وجلسات السمر و«شبات الضو».

هذه الظاهرة تزامنت معها برامج فضائية تعزز«التبدون» كبرامج المسابقات الشعرية التي عززت العودة للقبيلة عبر التصويت للشاعر ومعها انتشرت ظواهر وسم القبائل ومبالغات المزايين وظهور الشيلات ومظاهر الإسراف والبذخ.

لكن هذه الشخصية انحسرت بسبب إثارتها مشكلات أمنية والنعرات فتحول المجتمع عنها إلى مظهر اجتماعي جديد هو «الفردانية» وذلك بالتزامن مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وتعززت بشكل كبير، إذ أصبح الناس يتواصلون عبر «تويتر» والفيسبوك ثم الواتساب والتليجرام وأخيرا السناب شات.

وتبلغ الفردانية ذروتها حين تجتمع الأسرة في المنزل لكن من دون أي حديث مشترك؛ إذ الجميع يتواصل عبر الشاشة مع أصدقاء بعيدين في لحظة فارقة تؤكد ولع السعوديين بالتقنية ووسائط التواصل وقد جسدها الفنان ناصر القصبي في حلقة من مسلسل سيلفي حملت اسم «شايب الديمن» والذي كسر عزلته بالسناب، لكنه تسبب بالكثير من الحرج لأسرته بميله للاستعراض في الوقت الذي صار مشهوراً جداً في إشارة إلى نشوء ما يعرف بـ«مشاهير التواصل الاجتماعي».

وقد بلغت الفردانية مداها الأقصى حين أصبحت ملاذاً للبعض ومخبأ سرياً لهم حتى أن الأسرة التي لايغادر ابنها محيط المنزل لا تعرف أن ابنها يعتنق أفكاراً خطيرة ويتبرمج عقلياً على نحو ما، قد يفضي إلى الانضمام لتنظيمات أو أنه انتحر فجأة أو بات مدمناً للمخدرات الإلكترونية.

ويبقى السؤال هل غاصت الدراما بعيداً في رحلتها مع التحولات وتجسيدها؟ وهنا ليست الإجابة بقدر أهمية السؤال، لكن المؤكد أن الدراما كانت وفيّة لدورها حين جسدت تلك التحولات عبر تلك الشخصيات التي رسمت لنا تلك التحولات مما يجعل من تلك الأعمال وثيقة درامية وشاهدا على العصر.

* قاص وناقد سعودي