بوب ديلان
بوب ديلان
-A +A
سعيد خطيبي*
«إنّها مفاجأة» هكذا علّقت صحيفة فرنسية على خبر فوز الأمريكي بوب ديلان(1941-) بجائزة نوبل للأدب 2016. إنها المرّة الأولى، في التّاريخ، التي تمنح فيها جائزة أدبية لموسيقي، مع أن الحدود بين الأدب والموسيقى جدّ هشّة. وعلّقت لجنة تحكيم نوبل على سبب اختيارها بأن بوب ديلان «خلق تعبيرا شعريا جديدا، ورسّخه في تقاليد الموسيقى الأمريكية». هذا التّبرير يبدو مقتضبا، وغير كافٍ لفهم خلفيات الاختيار، هناك من الملاحظين من ذهب للقول إن اختيار بوب ديلان(اسمه الحقيقي: روبرت آلان زيمرمان) جاء بسبب «عدم إجماع» بين أعضاء لجنة التحكيم حول كاتب معيّن، هكذا جاء بوب ديلان ﮐ«حصان فاصل للخلافات الداّخلية» لحسم معركة التّكهنات حول اسم الفائز، وينال، في الأخير، التّشريف الأدبي الأعظم، الذي هو نفسه لم يكن يتوقّع يوما الوصول إليها.

«بوب ديلان يكتب شعرا للأذن» أضافت أكاديمية نوبل السّويدية في بيانها المقتضب، الذي تلته الأمينة العامّة للأكاديمية سارا دانيوس، إذ شبّهت نصوص ديلان الغنائية بنصوص الشّاعر الرومنطيقي البريطاني وليام بليك (1757-1827) باعتبار أن بوب ديلان يمثّل امتدادا طبيعيا للجيل الأخير من الرّومنسيين، في القرن السّابع عشر. ويمكن أن ننظر إلى الفائز بنوبل من زاوية أدبية، إذا اعتبرنا قدراته الفنيّة، في المزج بين نصوص، من توجهّات مختلفة، مع إيقاعات موسيقية متنوّعة، إذ يحسب له ميله الأدبي في كتابة كلماته، شعريته في رسم جمل يوزّعها على طبوع موسيقية مختلفة، هكذا إذا، فإن صاحب نوبل للأدب 2016، يكون له الفضل في منح الأدب روحا موسيقية.


من جانب آخر، يهمّنا أن نتوقّف عند خصوصيات تجربة ديلان الفنيّة، مصادرها وأشكال تلقيها، في الولايات المتحدة الأميركية، وخارجها، فقد استطاع، على طول العقود الأربعة الماضية، من المزج بين الفولك (أو الموسيقى الفلكلورية)، البلوز، الغوسبل، والروك وموسيقى الرّيف (أو الكاونتري) في إناء واحد، ليختصر لوحده جزءا مهما من التّاريخ الثّقافي لبلده الأمّ. «بدأت كتابة كلمات أغان من تأثري بالاستماع الدّائم لأغاني فولك. كنت ومازلت وفيا للموسيقى الفلكورية، هي تختصر العالم كلّه، وتنتمي إليه» هكذا قال بوب ديلان عن نفسه، قبل أشهر قليلة.

قبل أيّام، كانت صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية قد نشرت تقريرا تتحدّث فيه – ضمنيا – على مراهنتها على اسم بوب ديلان للفوز بنوبل للأدب، وكثيرون لم يأخذوا هذا الرّاي محمل الجدّ، لسببين: الأوّل كون بوب ديلان سبق ورُشح للجائزة نفسها، من عامين، ولكن بشكل خجول. وجد اسمه في السّباق ولكن كمرشح ثانوي وليس أساسيا للجائزة ذاتها، وثانيا أن الكتّاب باللغة الإنجليزية قد هيّمنوا على نوبل للأدب (28 فائزا بالجائزة منذ تأسيسها عام 1901 يكتبون بالإنجليزية)، لهذا فقد كانت التّكهنات تدور حول إمكانية اختيار كاتب من الشّرق الأوسط، أو من أفريقيا (المستبعدة من خانة التّتويجات منذ أكثر من 13 عاما). كما إن تيارا آخر من المراهنين ذهب للتّفكير أن تكون نوبل للأدب لامرأة، بحكم أن النّساء لم ينلن ولا جائزة واحدة في مجموعة جوائز نوبل هذا العام (الاقتصاد، السّلام، الفيزياء، الكيمياء..).

بوب ديلان ليس يمثّل تجربة فنية منفصلة عن واقعها، بل هو مناضل صارم، ومتصلّ، على الدّوام، بالأسئلة والقضايا التي تمسّ مجتمعه.

منذ أوائل الستينيات، من القرن الماضي، اختار أن يكتفي بحمل قيثارة على كتفه، وأن يتجوّل بها، في الحارات الجانبية من المدن الأمريكية، و أن يشارك النّاس همومهم وقلقهم بالكلمات والألحان، متمسكا، في الوقت نفسه، بمعارضته الصّدامية لبعض السّاسة الأمريكان، خصوصا معارضته الشّهيرة للرئيس كينيدي وللحرب في فيتنام، قبل أكثر من نصف قرن من الآن، فأغنيته الشّهيرة «أن تنفخ في الرّيح»(1961)، التي كتبها ولحّنها وهو لم يتجاوز سنّ العشرين، تحوّلت إلى نشيد خالد بين أفراد الحركات الاحتجاجية في أمريكا، لمناهضة التّميز ضد السّود، وضد الحرب في فيتنام. والحال نفسه مع أغنيته الأخرى: «الزّمن يتغيّر»، التي كتبها ولحّنها عام 1964، والتي رفعته عاليا بين الأوساط الشّبابية والمحرومة في بلاده، وهي أغنية أعادها من بعده مغنون كثر، من بينهم نينا سيمون(1933-2003) واحدة من أشهر المدافعات على حقوق الزنوج في أمريكا. إذاً، منذ بداياته، اختار بوب ديلان طريقا له، أن ينخرط فيما يطلق عليه «الثّقافة المضادّة» والاحتجاج على الوضع العامّ، كان ييدو شخصا هادئا ووقورا في شكله، لكنه قلق وغاضب في أغانيه وكلماته.قضى بوب ديلان حياة في تطوير الثقافة الموسيقية الشّعبية، في بلده، في الدفاع عنها، ليس فقط بالقيثارة، بل أيضا بالكلمات، فعلى خلاف مغنيين آخرين، لم يكن ديلان يرتجل نصوصه، بل كان قارئا جيدا للأدب، يستمد نصوصه الغنائية من قراءاته لكتّاب عالميين أثروا فيه: آرتير رامبو، جاك كيرواك، آلان غينسبارغ أو برتولت بريخت. لكن تغيّرات الزّمن لم ترحم بوب ديلان، فالجيل الثّوري الذي كان يغني له، في السّتينيات، انتهى، وجاءت أجيال جديدة، لها ميولات مختلفة، وحفلات بوب ديلان، في أمريكا وخارجها، لم تعد تجلب إليها أناس كثر، بل يحضرها في الغالب عدد كبير من النوستالجيين للماضي، هذا ما يُشعر المغني ببعض الإحباط، إذ فهم أن الزّمن قد تجاوزه، وجاءت جائزة نوبل للأدب لتعيده للواجهة، بشكل لم يكن يتوقّعه شخصيا، مع العلم أنه حصل، قبل ثماني سنوات، على واحدة من جوائز البوليتزر، لكنها مرّت من دون تأثير كبير على إعادة سمعة المغني. منذ نحو ربع قرن، لم يحصل أمريكي على نوبل للأدب، أي منذ توني موريسون عام 1993، ويأتي بوب ديلان الآن ليُصالح أمريكا مع هذه الجائزة المرموقة. لكن السّؤال الذي بقي معلقا، لحدّ السّاعة، هل نعتبر أشكال التّعبير الموسيقية أدبا مستقلا في حدّ ذاته؟ الجواب، نعم! فالموسيقى فنّ وصمت، تتشكّل من جسد يشبه جسد الكتابة، الموسيقى هي أدب مسموع.

* كاتب جزائري