عبدالكريم الرازحي
عبدالكريم الرازحي




سعد أحمد.
سعد أحمد.




اعتدال عطيوي
اعتدال عطيوي




محيي الدين جرمة
محيي الدين جرمة




صبحي موسى
صبحي موسى
-A +A
علي الرباعي (الباحة) Al_ARobai@
يحتفظ المشهد الكتابي العربي والعالمي بأسماء أضحكته حدَّ البكاء، وأبكته حدَّ الضحك، من خلال قدرتها على التقاط اللحظة المدهشة، ونقلها للقارئ بلغة تلعب بالكلمات وتحوّرها. وتقوم موهبة الكاتب الساخر على الحس النقدي اللاذع، لمواقف وأحداث وقرارات، دون مبالغة تخشّب النكتة، ولا إسفاف يميّعها، وبقدر ما يتاح اليوم من وسائل تعبير لكافة شرائح المجتمع إلا أن روح الدعابة تراجعت، وربما أخلاق البعض ضاقت، وسبل المعيشة تعقدت، فلم يعد يجد القارئ هذه المساحة للتنفيس عن نفسه بمتابعة واطلاع، ولعل لسوداوية الواقع أثراً في تهديد عرش الكتابة الساخرة، وهنا نطرح سؤال «عكاظ» لاستمزاج آراء كتاب ونقاد حول خفوت هذا الفن النادر وتراجعه، أو اندثاره وزهد رموزه، فيؤكد الكاتب اليمني الساخر عبدالكريم الرازحي أنه تحوّلَ من كاتب إلى مشّاء، ففقد لياقته في الكتابة وصار بمقدوره أن يمشي 12 ساعة بسهولة، فيما يعجز عن الكتابة ولو بضعة سطور، ليس فقط لأنه يمارس المشي بدلاً من الكتابة، كما قال؛ بل لأنه في سنوات الحرب وبسبب الحصار توقف عن القراءة؛ لتوقف الكتب والصحف والمجلات عن الوصول إليه؛ وبسبب انقطاع الكهرباء وانقطاع المرتبات، فانقطعت صلته بالعالم من حوله كما يصف. وزاد: أصبحنا معزولين ومنبوذين مثلنا مثل المجذومين، ولم نعد نعرف ما الذي يدور في الجوار.

ولفت الرازحي إلى أن الإجابة عن سؤال مثل هذا تحتاج إلى مسح ورصد ومتابعة للكتابة الساخرة وللكتاب الساخرين، إلا أنه غير ممكن بالنسبة له، وبالتالي فإن الإجابة عن سؤالك تبدو لي قمة السخرية، إلا أنه مع ذلك يمكن القول بأن المتوقع في هذا الزمن الذي ازدهرت فيه التفاهة أن تزدهر الكتابة الساخرة، وأن تتزايد أعداد الكتاب الساخرين، كون هناك علاقة بين التفاهة والكتابة الساخرة، فالكاتب الساخر يجد مادته الخام في التفاهات والتشوهات من حوله وفي كل تلك المفارقات الموجعة التي تبعث على الضحك وتجعلنا بحسب تعبير كازنتزاكي «نضحك لئلا ننفجر بالبكاء». وأوضح أن المفارقة الأعظم تتمثل في أن واقعنا العربي بقدر ما هو واقع غني بالمواد الخام وبمصادر وينابيع الكتابة الساخرة والأدب الساخر، إلا أن 99% من الكتاب والأدباء العرب جادون إلى درجة أن الجد عندهم يشي بالكثير من تفاهاتهم ومن تشوهاتهم ويصلح أن يكون مادة للكتابة الساخرة. وأضاف: وبالعودة إلى سؤالك: هل انتهى زمن الكتابة الساخرة؟ يمكنني الإجابة عليه بسؤال آخر هو: هل يوجد في عالمنا العربي أدب ساخر أو كتابة ساخرة؟


فيما ذهب الروائي صبحي موسى إلى أن الكتابة الساخرة كانت وما زالت وستستمر في الحياة طالما كان وما زال القهر والضعف وقلة الحيلة موجودة في مختلف المجتمعات، وليست المجتمعات العربية فقط. وأوضح أن النقد الساخر له مستويات عدة؛ منها المزاح الكاريكاتوري المعتاد، والمفارقة التي تجمع الرجل الطويل بصديق قصير، أو النحيف بالبدين، ومنها مفارقات اللغة التي تلعب عن انتخاب السخرية من خلال المفردات والألفاظ، وسخرية الموقف، وهذه تحتاج إلى قدرة كبيرة على توصيف الموقف وتصعيده درامياً بشكل ساخر. وقال موسى: لا أعتقد أن بلداً بحجم مصر ستخلو يوماً من وجود كتاب ساخرين؛ لأن السخرية تحتاج إلى شروط لإنتاجها؛ أهمها المعرفة القوية وقلة الحيلة أو القدرة على استنطاق الأحلام، من هنا ينشط الخيال لتقديم نقد لاذع للواقع، ولكن ليس على النحو الخطابي الوعظي، بل على نحو هادئ بسيط يقدم الذات أو البطل السردي بوصفه الأحمق والأغبى، ويقدم العالم بوصفه اللغز الذي يسعى البطل أو السارد لفهمه والتعامل معه، ومن هنا تنشأ المفارقات. ولم يستبعد أن الكتابة الساخرة تعيش مأزقاً واضحاً؛ كونها لم تعد المصدر الوحيد لإضحاك الجمهور، فهناك عشرات الأفلام التي شكلت ما عرف في السنوات الأخيرة بموجة الكوميديا الخفيفة، تلك التي خصمت من رصيد السخرية، ما أضرَّ بالكوميديا والسخرية بشكل عام، فضلاً عن أن سيادة الرأسمالية على كل فئات وقطاعات المجتمع جعلت كتَّاب السخرية يتحولون إلى كتَّاب كوميديين، ويبيعون سلعةً ليست متوفرة لديهم، لأن الكوميديا مربحة وأكثر انتشاراً. ويرى أن السخرية ستظل موجودة، ربما متفرقة في ثنايا أعمال وشخصيات أدبية لم تلقَ حظها من الشهرة والانتشار، وربما تصبح شخصيات وأعمالاً رئيسية وشهيرة ومنتشرة، ولا تقل متعةً ودهشةً عن جحا وأشعب وغيرهما مما حفظ ونسج التراث الشعبي العربي.

فيما قالت الروائية اعتدال عطيوي: لا تخلو جُعبة كاتب من السخرية المرة غالباً، فالحياة مسرح كبير ولكن القدرة على التقاط لحظة الدهشة قليل من يملكها. وعدَّت الكتابة الساخرة فناً قديماً جداً، ونادراً من يجيده على مرِّ العصور، ومن الأسماء البارزة عيسى بن هشام والجاحظ وجحا. وأضافت: في كل مجتمع قلة استطاعت أن تقبض على عصا السخرية بحذاقة، وفي المملكة أحمد قنديل وأمين رويحي، وفي الأعوام الأخيرة خلف الحربي ومشعل السديري، مشيرة إلى أنه ورغم ندرة الكتاب وشهرتهم، إلا أنهم سرعان ما ينطفئون لأسباب كثيرة منها؛ الرقيب بنوعيه الرسمي والمجتمعي. وعدّت وسائط التواصل الاجتماعي بدائل مكتسحة في ظل عزوف الكتَّاب واكتفاء الجمهور باللقطة السريعة حال ركضهم ليركض معهم كل شيء.

فيما أوضح الشاعر اليمني محيي الدين جرمة أنه عرف الكتابة الساخرة في غير بلد عربي؛ بعلاماتها وأقلام الكتاب المبدعين في أسلوب وطريقة جذب القراء وحجز مقاعد لهم، ما يولّد شغفاً وانتظار ما كتبوا، قبل صدور الجريدة الصباحية أو المسائية، خصوصاً في زمن المجد الصحفي للصحافة الورقية، مشيراً إلى أنهم كانوا في اليمن ينتظرون قلم الأديب الكاتب الساخر عبدالكريم الرازحي، الذي كان يكتب بأسلوب جاذب ومختلف، ومعالجاته تأتي في سياق المقالة الواحدة، على ضرب هدفين أو أكثر من مرتكزات الفساد الإداري والحكومي الرجيم بحجر واحدة، لافتاً إلى أن مجد الكتابة الساخرة في انحسار؛ لتراجع الاهتمام بكتَّابها، وغياب الحافز، وانعدام المواهب، وندرة الجوائز التي يمكنها تنمية هذا النوع من الفنون. وتطلّع لتبني كتَّاب النقد الساخر في الصحافة السيارة ومنصات ومواقع وجرائد ورقية بعضها لا يزال ناهضاً بفعل الدعم المادي المتاح لمؤسساته في بعض البلدان العربية، في المملكة وبعض دول الخليج المعززة للمنابر الصحفية، مضيفاً: أتذكر أنني كنت في صنعاء أنتظر شغفاً من أسبوع حتى تصل جريدة «الشرق الأوسط» لكي أبدأ بسندويتش أعمدة أثيرة وعميقة وساحرة الأسلوب والفكرة، وجاذبة لقارئها، منها عمود خالد القشطيني، وعبدالله باجبير، وسمير عطا الله، وكذلك الوجبة الصباحية أو المسائية من صحيفة «الحياة» اللندنية، لنطالع ما كتبه جهاد الخازن بسخريته المغلفة. وفي الصحافة العربية كثيراً ما طالعنا زكريا تامر بقلمه الساخر الجميل، وسخرية المصري أحمد رجب التي كانت تميل إلى ترجيح موقفه الساخر، من الجندر المتعلق بالمرأة، لكن دون التعريض بها كموقف ضدها من الكاتب، كذلك قلم محمود السعدني في مجلة المصور المصرية أيضاً، كان يتسم بجماليات خاصة مشبعة بفلسفة أسلوب، وثقافة ومعارف شتى.

فيما يرى الشاعر المصري علي عطا أن الكتابة الساخرة لم تندثر؛ سواء في اللغة العربية أو في غيرها من اللغات، وهي لا تدرس، بما أن من يمارسونها ولدوا بموهبة تميزهم عن غيرهم في هذا المجال. وعدّ الكاتب الساخر بالضرورة إنساناً ساخراً، أما من يتصنع السخرية وخفة الظل فسريعاً ما يُمنى بالفشل ومن ثم انصراف جمهور عمَّا يقدمه لافتقاره إلى أهم سمة للفن وهي الصدق. وأوضح أن من أبرز الأدباء الذين عرفهم ولا تخلو كتاباتهم من حس السخرية الراحل إبراهيم أصلان، وتجلت موهبته تلك في مجموعاته القصصية ورواياته وحتى مقالاته؛ التي كان ينشرها في صحف الرياض والحياة والأهرام. إضافة إلى الشاعر والكاتب الصحفي يسري حسان الذي لا يخفف من سخريته إلا عندما يكتب في النقد المسرحي، وهناك أيضاً القاص والروائي أشرف الصباغ الذي يعمل ويقيم في روسيا.

.. لم تختفِ بل تطورّت

وذهب الكاتب سعد أحمد إلى عدم الفصل بين فن الكتابة الساخرة وفن الكتابة الإبداعية، لأنه بناء لنموذج من الحياة الاجتماعية، لا ينشأ من فراغ، وإنما يستخلصه الكاتب البارع من الأحداث المعاصرة؛ سواء كانت تلك الأحداث من المجتمع الذي يعيش فيه هذا الكاتب أو حتى من مجريات حياته هو نفسه، وعدَّ الإبداع حاضراً بطرق عدة، والكتابة الساخرة طريقة من طرق التعبير الناقدة، غير أنها تحتوي على النكتة، والتهكم، وحيناً الألم.

ويرى أن هذا الفن لم يختف ولم يخفت، فهو لا يزال قائماً، لكنه تغيّر أو لنقل تطوّر، والكاتب الذي لا يواكب التطور يتعرّض فكره للترهل، فبعض الصحف أيضاً لا تساعد هذا النوع من الكتابة على البروز فتتعامل مع الواقع بانفصال تام، وتتخذ الطابع الرسمي المتسم بالصرامة والثبات مساراً لها، بمنطق الثمانينيات أو التسعينيات. في هذا العصر الأمر مختلف كلياً ولا يوجد شيء يصعب نشره، فكل شيء مُشاع ومُشرع، فوزارة الإعلام أكثر وعياً من بعض الصحف في فسح ما يكتبه المبدعون.

ويؤكد أن التغيير أو التطوير الذي طرأ على الكتابة الساخرة كان باستبدال الكتابة الطويلة؛ ومنها الروايات والقصص والمقالات، بالومضات المختزلة والتغريدات القصيرة التي يتقنها رواد مواقع التواصل، وحيناً تكتب ثم تنقل إلى المنصة المرئية، فتكون على شكل سوط للضعيف يجابه به سوط القوي، أو نقد ساخر لبعض العادات والتقاليد (المهايطية) التي حوصرت فأصبحت حدثاً مثيراً للسخرية، فصارت كل الجبهات مفتوحة للنقد الساخر.

ويرى في الجيل الجديد تحفزاً نحو التغيير والتنفيس، فيثيرون صدمات تؤجج الموقف بطريقة ساخرة للتخفيف من وطأة الصدمة، تتمثل هذه أيضاً في الكتابة المسرحية والسينمائية و(ستانداب) وعلى شكل (اسكتشات) تسخر من برامج ومذيعين فنانين، مؤكداً أن الكتابة الساخرة لم تخفت إلا أن التأثير لم يعد كبيراً كما التأثير الذي تصنعه وسائل التواصل الحديثة، وذلك بحكم توجه الأنظار.