حسام معروف
حسام معروف




فاطمة بدر
فاطمة بدر




غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
-A +A
حسام معروف *
يلتقط الإنسان الصور بالتقاطع مع التجربة، تلك التي تكون المسبب الرئيسي في تحفيز النضج لديه، وتزيد من مساحة الوعي، إذ تعمل هذه التغذية المستمرة في هدوء، داخل بيئة معتمة في العقل، وبطريقة بطيئة. ولطالما يتغير المرء، وفق القناعات التي طرأت عليه جراء الاحتفاظ بالصور أو نسيانها، وتبدو لحظة التذكر، في الكثير من الأوقات منطقة تورط للمرء مع الماضي. بل ويذهب بعض الفلاسفة إلى أنه من حظ الإنسان كونه مخلوقاً بفكرة النسيان، حيث إن «ميزة الذاكرة السيئة، أن المرء يستمتع عدة مرات بنفس الأشياء الجيدة، لأول مرة» كما رأى فريدريك نيتشه. هذا في حال كانت ذكرى جيدة، أما من حمل الذكرى السيئة، فإنه يبقى في تيه وشرود وشعور بالخذلان، والحنين، لحظة استعادة الماضي. عن هذه المقامرة بالذات والجسد والحواس، تسكب الشاعرة الإماراتية فاطمة بدر، التقاطاتها من الماضي، مراقبة التغيرات التي يمر بها مكنون الإنسان على طول الطريق، هذا كله في مجموعتها الشعرية «قبل أن يشنق الفجر نفسه»، التي صدرت عن دار للنشر 2021.

بينما تتخذ الشاعرة المسرح الواسع لخيالها في التجريب، لتخليق القصائد، تستخدم اللغة السلسة، البعيدة عن التعقيد والإبهام، حين تصوغ قصائدها وفق تجددية قصيدة النثر، مبرزة صوتها الشعري المتنوع في طريقة الخطاب. فعلى طريقة البوليفونيا في السرد، تعطي لقصائدها الأصوات المتعددة في المخاطبة، بشخصيات شعرية تحتمل صوت الرجل والمرأة، وبصيغ مختلفة التمثيل. تعددية الأصوات الشعرية هذه تعطي للمجموعة أبعاداً أكثر وصولاً في الذهن، وأكثر ليونة في إيصال التجربة. ولا يتوقف ذلك اللحن المعزوف بأكثر من آلة موسيقية، يصنع هارموني شعر مكثف ومؤدي إلى أكثر من احتمال.


كما وتنوع الشاعرة ما بين ضمير الأنا والمخاطب والغائب، في شكل صياغة اللغة، كنوع من تعديد الرؤى والزوايا. أما صورها فتميل في نسجها على التوصيف، كأنما مشهد درامي يتمثل أمامها وتقوم بنقله من خلال 125 قصيدة قصيرة الطول، وممتدة على 139 صفحة من القطع المتوسط، ومنفصلة من خلال عناوين متفاوتة في التركيب والصياغة. فيما تذهب بدر إلى ثيمات متعددة في صياغة صورها الشعرية، ما بين الجمل القصيرة والطويلة، ومتوسطة القصر، وفي كل مرة كانت محافظة على قوام قصيدتها الشعري، بحيث يبقى متماسكاً دون إسراف في فخامة اللغة.

مادة خام

ويتحقق في قصيدة «بدر» الصوت الشعري دائم الاحتكاك بتفصيلات الماضي، والملتقط المتمرس للحدث العادي، بما يحمله من مقارنة مع الحاضر والآني، فيما تحوله إلى منتج شعري يحمل الرسالة والعمق. فعند «بدر» لا نظرات عادية في طريق الشعر «أحدق في الفراغ الحزين، وبين أصابعي ذاكرة تتسرب»، ولا يهم السرعة التي يمضي بها الإنسان خلف رغبته وأفكاره، بينما «يرقد العالم في ندم طويل». فيما يبدو الزمن في قصيدة الشاعرة عامود صلب لا يمكن إتلافه، تلتف حوله القطع الصغيرة من مكونات الحدث، وهو ما يهب للشعر دائماً حيويته وتواجده في العالم. فتبدو الهوامش الصغيرة في قصائد بدر وكأنها تنبض في الحال، خارجة عن سياق الوقت الذي لطالما يحاصر الأشياء بالتغير والتعرية، والتلف أخيراً، لكن الشعر يعالج ذلك بالاحتفاظ بالمادة الخام للشيء، ليتمكن من عرضه مرة أخرى على مسرح الحياة.

صورة مقطوعة

قد يبدو لدوران الحياة صوت صاخب، لكن المرء المتمسك بهويته المتشكلة مع ماضيه، يراقب عجلة العالم وهي تدهس التواريخ، من منطقة ميتة، هي ذاتها المنفى الذي يحمي الهوية من الضياع، ويؤسس لعالم متماسك مكتمل الجزئيات، بدلاً من أن تكون الصورة الهيولية مقطوعة، غير كاملة المعنى.

تكتب الشاعرة في نص «إلى كل مكان» عن هذه الرؤية، مفسرة المنفى بكاميراه الدائمة التشغيل:

«عيون الوقت ضيقة جداً

ليس بوسعها أن تدرك الرؤية،

أفواه العقارب تدور على أيامها،

تدور وتدور،

حتى أدركت بعد ذلك أنني نفيت،

نفيت يا حبيبتي إلى ما وراء الذاكرة،

إلى حيث يقبع النسيان..

في قوقعته الأزلية،

إلى مكان لن تجدينني فيه».

دون محددات أو حواجز

وإذ يميل المرء إلى التنقل في الشاسع والمفتوح، فقد وُضعت له المحددات والحواجز والقوانين، فبقي في حيرته المشاكسة مع المحدد والحرية، يصنع تيهه ويشتعل بمشاعره تجاه ما كان سيحدث، لكن النمطية ألغته. عن الاحتمالات في السفر والبقاء، والحب والفقد، والعزلة والمشاركة، وامتلاك الحيز الخصوصي، حيث يقبع الإنسان في مواجهة الرفض والشروط، تتساءل الشاعرة في قصيدة «قبل أن يشنق الفجر نفسه»:

«كيف نخلع الظل من امتداد الأرض؟

كيف نصرف الأزقة المثقلة بالولادات؟

نقف على الحد،

بين حبهم المشروط،

وبين الرجوع والسفر،

الأرض ترفضنا،

ونحن نبحث عن أوطان،

في مسحة طمأنينة،

تخبرنا أننا سنكون بخير».

تلميحولأن لغة الشعر بتخثرها، تسعى دوماً للتلميح والإبطان، فإن العقل في هذا الإطار، ينسحب مع الحيلة الشعرية، ليبدل، ويدمج ويعكس ويقلب المشهد الشعري، محاكياً احتمالاته اللا نهائية. لكن الشِعر يدخل في هذا الحيز بطرقه الخاصة، ليصنع تلميحاته، ومراهنته الخاصة مع المعنى. فتذهب فاطمة بدر إلى تبديل الأجسام الشعرية في نصها، وإكساب صفات الحس للجماد والمعنوي، كما الكائن الحي تماماً، في نص:

«الويل للنداء الذي لا يصل»:

«الويل للطريق

للوقت

للحروف التي ضيعتنا

في تيه الوقوع

للبوابات التي تنزف من يدينا

للأغاني التي في فمي

للأثر الذي أمسى سفراً

الويل للنداء الذي لا يصل

للموعد السحيق

المهمل في محطة الانتظار».

مشاركة العزلةولطالما كان السؤال الوجودي مثار اهتمام الإنسان، وسبب حيرته وتقلب قناعاته مع الحوادث والزمن. فطريقة معرفة الأشياء تتم بالسؤال الصامت أولاً، بما يلحقه من حراك فكري جواني، ومن ثم يتمرس المرء على المشاركة والتماهي مع الآخر، ربما يجد الحقيقة، لكن في كل مرة تتسع دائرة المعرفة قليلاً، فيميل الإنسان للعزلة أكثر.

تكتب الشاعرة:

«أنا هنا»:

«يلتهمك التساؤل،

يقلصكِ المعنى الذي تبحثين عنه،

والأرض التي حظرت اسمكِ

لا تسع منطِقكِ

وأنا هنا،

لا شيء يغويني،

أود لو تشاركينني عزلتي،

لننجو معاً من هذا الارتطام».

* شاعر فلسطيني