-A +A
محمد محسن
ليس أجمل من تلك البهجة التي تختبئ خلف الكلمات الأخيرة للكتاب الذي نقرأه وتبقى متأهبةً لتقفز إلى أعيننا فور انقضائها فتكسوها جذلاً وغبطةً.

مبعث ذلك أن التعرجات التي يصنعها المؤلف، عادةً ما تفضي بالقارئ إلى فسحة كافية لتأويل عميق يمكنه من رؤية الكون الكامن في داخله والنفاذ منه إلى أكوان أخرى وخلق صلة روحية بينه وبين الحكمة، لتحقق إحدى فضائل القراءة المتعدية والممتدة، فالقراءة عملية أطول وأعقد من مجرد النظر كما تقول فرجينيا وولف. ولذلك فالقارئ الحقيقي يزداد حكمةً ويقيناً ويصبح خياله أكثر جموحاً وجراءةً وروحه أكثر قدرة على لمس مكنونات البشر وتملس اختلافاتهم.


والكتب تعيننا بشكل ما على كل ذلك بل وتقدم لنا المساعدة على تدبر أمورنا بشكل حسن وتجاوز الكثير من العقبات التي نواجهها وكذلك على ترتيب الفوضى التي تحدثها منغصات الحياة وكذلك هي تعيننا على خلق مناخ ملائم تنمو فيه أفكارنا وتتجدد.

ومع ذلك فنحن لا نملي على الكتب ما يجب أن تفعل بنا وكيف يجب أن تبدو، بل نستسلم لغوايتها ليس لأنها فاتنة فحسب بل لأنها قادرة على إسعادنا وانتشالنا من رتابة واقعنا وإذابة تلك التكلسات التي تنال أحياناً من عقولنا.

وهي تفعل ذلك لأن بعضها يشبهنا على نحو ما، سيما تلك التي نجد بين دفتيها شيئاً من ذواتنا ونعثر في باطنها على جزءٍ منا كنا قد دفناه قبلاً كذكرى، ولذلك وصفها (آلان دو بوتون) بأفضل الكتب وعلل ذلك بلأنها (تجعلك تتساءل كيف عرف المؤلف عني كل ذلك). ولذلك نحن نقرأها بطريقة خاصة وندرج على العودة إليها ونتشبث بكلماتها لنصعد ونوغل علواً.

ولكن أجملها هي التي تفعل ما هو أكثر من ذلك، فتبدو حانية كأم رؤوم تحيل شعرها إلى عش دافئ وتشعرك بأصابعها وهي تدثرك، وترفأ ردائك الممزق عند خاصرتك وتسقيك حساء القمح، ولذلك فنحن نقرأها بامتنان وبر ونقلب صفحاتها كما يقبل شاب جبين والدته. ولا نفعل الأمر ذاته بطبيعة الحال مع تلك التي نقرأها فنشعر بشيء يتهشم في داخلنا وهي تشق في أرواحنا طرقاً جديدة لنتحول إلى مرحلة أخرى من القراءة نتحرر فيها مما يمكن أن نصفه بالتبعية للمؤلف ونتغلب على محاولة إرغامنا قبول كل فكرة يؤمن بها أو رأياً يؤيده فنتعامل معه بنديةٍ ونتفحص كل ما نقرأه بدقةٍ وحزم. إن المتعة التي يشعر بها المؤلف وهو يطلق عنان قلمه في مضمار الورق قد تمتد إلينا وتتحول إلى لذة ساحرة تبقي على أنظارنا مشدودةً إلى تلك الأوراق وهي الجزء الممتع في القراءة ولكن الظفر بها لا يجب أن يلهينا عن انتقاء ما يثري عقولنا ويغني ألباننا. لأن قدرة كهذه كفيلة بتحويل كل كتاب إلى درجة نصعد بها سلم المعرفة ونرتقي عبرها في فضاء الثقافة. فنفاذ الفهم إلى ألبابنا هو ما يجعل أحاديثنا ذات قيمة وحواراتنا ذات هدف وينحى بهما نحو الإثراء والإغناء، وهو أيضاً ما يطلق قدرات العقل ويشرع نافذته على فضاء التنوير ويصنع فكراً جمعياً متقدماً.

وهو نتاج رحلة شيقة تتجاذبها الفائدة والمتعة ويظفر القارئ بكلتيهما، فيغنم منهما ما يكسبه ذهناً متقداً وفهماً عميقاً ومعرفةً واسعةً وعلماً يفيض على من حوله، فيبدو حين يبدأ حواراً ما مؤثراً ومقنعاً ومشعاً.