د.سعود الصاعدي
د.سعود الصاعدي
-A +A
سعود الصاعدي*
في سيرته (الحياة خارج الأقواس) يروي سعيد السريحي حكاية ذات تشظٍّ في أكثر من ذات. بدأت من الجد الثامن أو السابع إلى أن انتهت إليه وهو يحدّق في السقف يتأمل خيوط عنكبوت امتد نسيجها إلى نهاية سيرته التي وقفت عالقة أخيرا في سقف الغرفة.

رواية؟ نعم، سيرة؟ نعم، حكاية؟ نعم. هي كل هذه الأجناس في سرد شائق وبديع، كان فيه السارد هو البطل، وكان هو الحفيد والأب والجدّ وجد الجد.


شرع يسرد حكايته قبل أن يبدأ في ارتداء العمر، مع الإصرار أنه هو الذي بدأ وهو الذي امتد في أجداده كما امتدّ أجداده فيه، وعلى هذا المنوال راح يقص حكاية العمر على مرأى من الأحفاد الذين كانوا يشاكسون شيخوخته بدعابات يسلّط من خلالها الضوء على عالم الشيخوخة من خارجها في الوقت الذي يوغل فيه داخل أعماقها.

لم أقرأ سيرة شيخوخة بهذا الألق والشجن من قبل، ولم أذق طعم الكلام كما ذقته في هذه السيرة الذاتية التي تختلف في طريقتها وطريقها عن الطرق السالكة.

حكى سعيد سيرته عبر زمن التذكّر لا عبر خط الزمن الخارجي، وهذا أتاح للسيرة أن تكون زمناً داخلياً له أكثر من مستوى وأكثر من مسار. فتارة هو مسار قافلة الأجداد، وتارة أخرى مسار الذات داخل هذا الزمن الوجداني العميق.

وحضر عابد، في شخصية كاشفة، ليؤدي دوراً مهماً في هذه السيرة، ربما دور الشخصية الافتراضية لسعيد، تلك الشخصية التي تمثّل السارد في جانبها المسكوت عنه، وهي الشخصية التي لم يكتب لها البقاء، فغادرت دون أن تفنى، ودون أن تمحوها الذاكرة، بل بقيت في الضمير الباطن للشخصية التي اكتمل بها السرد، واكتملت السيرة.

الحوار في السيرة حوار واقعي على لسان اللهجة التي تنبت في التخوم بين البادية والحاضرة، لسان مختلط بين الأجداد والأحفاد، بين لسان القبيلة ولسان المدينة، ولم تكن اللهجة عسيرة على مثلي، ولا أظنها ستعسر على القارئ كونها لهجة بيضاء تصل بكل بساطتها وشعبيتها الحميمة.

ثمة تأملات في الحياة والموت، وفي الذات الإنسانية، وفي الأمنيات والطموحات، وثمة وجع لكنه متسامح، ويقين يملأ السيرة بعبق روحي أنيق.

إنها حياة خارج الأقواس، لكنها في الوقت نفسه داخل أقواس الذات التي تنعكس فيها كل الأحداث كما تنعكس الصور في المرآة: «بتّ أراهم، أولئك الذين يحيطون بي من أبنائي وأحفادي، امتداداً لي، مراياي التي أرى فيها نفسي حين يتحدّثون، وأراني، كلما فتحت عيني ورأيتهم يستديرون حولي، أستدير حول نفسي، لم أعد أميّز أسماءهم ولا أستبين ملامحهم. وجهي وحده كان يملأ المكان، وصوتي وحده يمزّق الصمت، والجدران كلُّها أصبحت مرايا وأنا أتقّلب في الأعمار».

* ناقد وروائي سعودي