-A +A
خالد سيف ksaif@

جورج فلويد مواطن أمريكي من أصل أفريقي لفظ أنفاسه الأخيرة في 25 مايو 2020 في مدينة منيابولس.. في ولاية مينيسوتا في الولايات المتحدة الأمريكية.. تحت أقدام ضابط شرطة.. من ذوي البشرة البيضاء.. يدعى «ديريك تشوفين» خلال عملية اعتقال وحشية.. الحدث إلى هنا لا يتعدى أكثر من جريمة وصفها المتابعون بالعمل العنصري الفظيع.. والذي لم يكن الأول في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.. ولن يكون الأخير.. حيث يتعرض الأمريكيون من أصل أفريقي والذين يشكلون أقل من 14 في المئة من السكان حسب إحصاءات عام 2019 الرسمية لحوادث إطلاق نار بنسبة 23 في المئة وربما تزيد قليلا.. من بين كل 1000 حالة إطلاق نار أدت إلى القتل على يد الشرطة..

ولكن الحادثة التي صنفت كجريمة قتل من الدرجة الثانية بعد تجاوب الادعاء العام الأمريكي مع مطالب الشارع بتشديد العقوبات ضد ضابط الشرطة المتهم وزملائه.. والحركة الاحتجاجية المستمرة منذ أسبوع في الولايات المتحدة الأمريكية.. هي بلا شك غير مسبوقة من أوجه كثيرة.. فالأمر بات يتخطى مسألة الأعراق والتجاوزات المستمرة.. ضد السود من قبل رجال الشرطة.. وهي القضية التي لم ولن تنته.. لأن الإدارات الأمريكية المتعاقبة لم تتعامل معها بشكل جذري.. منذ تبرئة أفراد الشرطة الذين اعتدوا بالضرب بوحشية على رودني كينغ في لوس أنجلوس.. ووفاة مايكل براون عام 2014 في فيرجسون..

سلسلة من العوامل والتداعيات.. ارتبطت بهذه الحادثة.. غير المسبوقة في الولايات الامريكية من جهة سرعة الانتشار والحجم.. والجمع بين الحركة الاحتجاجية السلمية والعنيفة.. واستغلال الوضع من قبل العصابات المنظمة.. في العديد من المدن وبهذه الطريقة..

الأمر الذي دفع البيت الأبيض إلى نشر جنود الحرس الوطني في خمس عشرة ولاية بينما فرضت السلطات المحلية حظر التجوال في عشرات المدن. وهو أمر لم يحدث منذ اندلاع أعمال الشغب التي أعقبت اغتيال مارتن لوثر كينغ في عام 1968..

كما جاءت حادثة وفاة جورج فلويد أيضا في ذروة جائحة كوفيد-19.. التي سلطت الضوء على أوجه القصور الشديد في معالجة هذا الملف الصحي.. بشكل يدعو للرضا.. فالوباء قد ألحق أضرارا اقتصادية بالمجتمع الأمريكي.. وخاصة ذو الأصول الأفريقية والذين قد لا يسمح هذا الضرر لجزء كبير منهم بالبقاء أحياء.

كما يختلف الامر عن أعمال الشغب في لوس أنجلس في عام 1992 أو بصورة أقل في احتجاجات فيرغسون عام 2014، عندما شعر الأمريكيون أن الأوهام التي ذاعت في الولايات المتحدة إبَّان انتخاب باراك أوباما في عام 2008.. وشعار «أمريكا بلا ألوان».. قد انقشعت.. ولازالت العنصرية تسجل حضورها في الحياة اليومية.

فإن الحركة الاحتجاجية الراهنة جمعت بين شرائح متباينة من الشعب الأمريكي، حتى أن الغالبية من السكان البيض شاركوا في المظاهرات.

كما وأن مشاركة عدد من رجال الشرطة وتضامنهم أخلاقيا من هيوستن إلى نيويورك مرورا بكنساس سيتي وميشيغان ونيوجيرسي وولايات أخرى.. يعزز من أن الحادثة تجاوزت كل المعايير الأخلاقية والسياسية.

ومما زاد الأمر سوءا.. عاشت البلاد في عهدة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب مناخا استقطابيا شديدا لمدة ثلاث سنوات بين شدا وجذب.

ولو تعمقنا في الخلفية السياسية للأحداث.. انطلاقا من العاصمة واشنطن.. وتحضيرها الفعلي.. للدخول في المعركة الانتخابية.. من خلال محاولتها.. المرتبكة لعلاج عدد من الملفات.. المفتوحة.. تتصدرها ملف جائحة كورونا.. والحرب الباردة اقتصاديا مع الصين.. وملف العراق المثقل بعملاء طهران.. الذين أفرزتهم عملية الغزو الأمريكي.. وملف الانسحاب من أفغانستان، والصلح بين كابول وطالبان بعد عجز دام سنوات، وملف المناوشات مع الكرملين في سوريا وليبيا، والمعركة الناعمة مع عمائم الشر في طهران والتي لم تفلح حتى الآن من تحجيم التدخلات العبثية الإيرانية في شؤون دول المنطقة.. مع تعاقب الإدارات السابقة والتي ختمها أوباما بالتورط في الملف النووي الإيراني قبل مغادرة البيت الأبيض.. وفوق كل هذا هناك جبهة داخلية يتصيد من خلالها الخصوم من صقور الحزب الديمقراطي المنافس.. والمنتمي لليسار الهفوات.. ويعدون العدة للانقضاض على البيت الأبيض من جديد، ولا نغفل الحركات المناهضة لليمين الديمقراطي المنتسب له سيد البيت الأبيض الحالي في عدد من العواصم العالمية.. عندما خرج أنصارهم بدافع التضامن مع مقتل فلويد من منطلق تأييد الحركة اليسارية.

من هنا ندرك أن السياسة تغلف المشهد.. والمتابع لما تفرزه الماكينة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية من مصطلحات.. يدرك أن السباق الى البيت الأبيض ينحصر بين جماعتين هما اليمين واليسار.. ولكل منهما إستراتيجية مختلفة.. ولكل من المصطلحين معانٍ شتى في الحياة السياسية. ويعبران عن المواقف الأساسية.. والأيديولوجية والحزبية.. ويعتمد مفهوم اليسار الذي أشعل أنصاره الشارع الأمريكي وينتمي إليه الديمقراطيون في سياساته على مبدأ المساواة الاجتماعية والإنسانية بين الناس، وأهمية إحراز تغييرات أساسية في المؤسسات الاقتصادية والسياسية والثقافية في أمريكا.

ويعارض الجمهوريون من يطلق عليهم صفة المحافظين، أنصار اليمين.. الحكومة المتشعبة النشاط.. كما يعارضون تقييد حركة المشروعات الخاصة.. وليسوا متحمسين للبرامج الاجتماعية.. كما يفضلون بقاء الضرائب عند مستويات منخفضة خاصة على الأثرياء، ولكنهم في الوقت نفسه لا يسعون لإصلاحات في مجال الحقوق المدنية.

وعلى الرغم من التوافق بين القطبين الرئيسين على المحاور الرئيسية في السياسة الخارجية منذ الحرب الباردة.. وفي مقدمة ذلك نظرية الهيمنة على العالم وتضخيم القوى العسكرية، هناك من كان يغرد خارج السرب.. لذلك تم إبعادهم عن مواقعهم في الوزارات السيادية.

ومن العوامل التي ساهمت في هذا التوافق وجود منصات تعنى بالفكر السياسي وتدفع باتجاه سياسات التدخل في شؤون الدول الأخرى.. من خلال نظرية بسط الهيمنة.. والسيادة الأمريكية على العالم.. مع اختلاف جزئي في وسائل التنفيذ..

ولا ننس أن للإمبراطوريات الإعلامية في أمريكا سطوة تتجاوز مرحلة إثارة الرأي العام.. إلى درجة أن هذا الإعلام قد صنع شخصيات عامة ورفع من شأنها.. ولا يختلف المراقبون السياسيون على الدور الذي قام به هذا الإعلام في صنع الرؤساء ودعمهم حتى يوصلهم إلى بوابة البيت الأبيض، والشواهد كثيرة.. ولازالت قائمة، ويبقى المال السياسي شريان الحياة السياسية في أمريكا.

وفي الظروف الراهنة التي تعيشها الولايات المتحدة.. ربما علاقة الود بين الإعلام والرئيس المنتخب قد انتهت بعد وصوله المفاجئ إلى كرسي الرئاسة، عندما سئم الأمريكيون من الساسة التقليديين ووعودهم الوهمية.

فهل أدركنا أن ما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية حدث متشعب، وشعار مناهضة العنصرية هو الشرارة التي أطلقت الانتفاضة الشعبية رغبة في التغيير.. والإصلاح.. وتصحيح المسار السياسي.. لذلك، ربما أخذ الإعلام الأمريكي على عاتقه محاولة التكفير عما صنع من غلطة.. وقام بحملة منظمة.. لا تندرج تحت إطار النقد الهادف ضد سيد البيت الأبيض.