-A +A
صدقة يحيى فاضل
يدعو كثير من خبراء وعلماء السياسة الأمريكيين، وغير الأمريكيين في بقية أرجاء العالم بحرارة، حكومة الولايات المتحدة لمراجعة وتطوير وتهذيب سياساتها الداخلية والخارجية، بما يخدم في نهاية الأمر المصالح الأمريكية الحقيقية، ومصلحة العالم، وخاصة في مجالي الأمن والسلم الدوليين. وهناك شبه إجماع بين هؤلاء على أن أغلب هذه السياسات والإستراتيجيات الأمريكية تظل في أمس الحاجة للمراجعة والتطوير والتعديل. فليس من مصلحة أمريكا أن تستمر هذه السياسات على ما هي عليه، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945، وتتواصل كذلك، حتى نهاية «الحرب الباردة» (الأمريكية – السوفيتية) عام 1991.

إن أبرز ما تتسم به هذه السياسات هي كونها سياسات «أوليجاركية»، تسعى لخدمة جماعات مصالح (أمريكية) معينة، ودون اعتبار يذكر لمصلحة الشعب الأمريكي وللمصلحة العامة الأمريكية، والمصلحة البشرية، التي يجب أن تتناسب مع مكانة الولايات المتحدة الدولية. وغني عن القول تذكر أن هذه السياسات قد نجم عنها الكثير من الأوضاع السلبية الداخلية (تراجع ديمقراطية أمريكا، ازدياد الفقراء فقرا والأغنياء غنى، ارتفاع نسبة البطالة، على سبيل المثال لا الحصر) والخارجية (انحسار النفوذ الأمريكي حول العالم، تدني سمعة وشعبية أمريكا... إلخ).


إن المراقب المحايد (وحتى المحب) للسلوك السياسي الأمريكي، الداخلي والخارجي إلى حد أكبر، يصدم من كون هذا السلوك منطلقا من هدف (خفي وغير معلن) هو: خدمة مصالح بعض جماعات الضغط أولا، وقبل كل شيء آخر. يقول الرئيس الأمريكي الحالي «دونالد ترمب» إن حكومته ستعمل على خدمة أمريكا أولا (يقصد كل أمريكا).. ولو تحرى الدقة في التعبير لقال: إن حكومتي، مثل ما سبقها من حكومات، ستخدم مصالح جماعات المصالح المتنفذة إياها أولا.

لقد نتج عن هذا التوجه السياسي الأمريكي ما نتج من مآسٍ وكوارث إنسانية لا حصر لها، خاصة على المستويين العالمي والإقليمي. حروب متنوعة ومختلفة شنت هنا وهناك.. معظمها لا معنى له، ولا هدف معقول، سوى إرضاء بعض الفئات المصلحية، مثل ملاك مصانع الأسلحة الأمريكية، وتجار السلاح، وإشباع غرور الكاوبوي الجامح. وهناك دعم مقيت لبعض «الباطل» وخرق حقوق الإنسان في كثير من أنحاء العالم، ناهيك عن كون أمريكا المعارض الأول والأساسي لإصلاح وتطوير منظمة الأمم المتحدة..؟!

****

تأسست الولايات المتحدة عام 1789، أي قبل 229 عاما. وهناك إحصائية تشير إلى أن هذه الدولة قد قضت حوالي 93% من عمرها هذا (229 سنة) وهي تخوض حروبا متنوعة، منها حوالي 90 حربا عسكرية (أغلبها بالتعاون مع «وكلاء» محليين) ضد دول وجماعات خارج حدودها، بدءا من حربها ضد نيكاراجوا عام 1833، وحتى حروبها في سورية والعراق وأفغانستان، وغيرها.

انتهت الحرب العالمية الثانية بعيد قصف نووي لمدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، بقنبلتين ذريتين أمريكيتين، فقد حوالي 220 ألف شخص حياتهم نتيجة لإلقاء هاتين القنبلتين. أكثر من 100 ألف شخص قتلوا خلال القصف مباشرةً، والبقية فقدوا حياتهم في أواخر عام 1945، نتيجة للإشعاعات النووية الضارة التي أُصيبوا بها. ومنذ انتهاء تلك الحرب، وخروج الولايات المتحدة منتصرة، عسكريا وسياسيا، وظهورها كدولة عظمى، أمسى جنرالات الحرب الأمريكيين منتشين جدا بهذا النصر، وبدأوا يدفعون لشن حروب عسكرية عدة، آملين تحقيق انتصارات سهلة فيها. ولكن النتائج النهائية لمعظم هذه الحروب أتت مخيبة لآمال هؤلاء العسكر (ومن تعشم النصر فيهم) الذين مازالوا يديرون أفضل وأقوى جيش في العالم..؟!

شنت الولايات المتحدة حروبا إقليمية عدة، إذ خاض جيشها 41 حربا في 28 دولة، منذ العام 1945، حتى الآن. ومعظم هذه الحروب انتهت بكوارث ألحقت بالبلاد التي شنت عليها وفيها، وعادت على أمريكا نفسها بشيء من الخسران. وقديما قيل: «لا منتصر في الحروب».. للدلالة على ما ينجم عن الحروب من مآسٍ لكل أطرافها. الأمر الذي يجعل من الدفع بالتي هي أحسن (سلما) هو الخيار المنطقي والأفضل في حالة تسوية الخلافات والصراعات، سواء الدولية أو الشخصية. وهذا القول تثبته هذه الحروب الأمريكية بقوة.

****

وعندما نتوقف، عند «حروب» الولايات المتحدة هذه التي خاضتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، سرعان ما سنرى أن التحليل الموضوعي المحايد لهذه الحروب البشعة، وما نجم عنها من ويلات، يكشف سوء كثير من السياسات الخارجية الأمريكية، وتخبطها، وعدم اكتراثها بالقيم الإنسانية التي يقدرها البشر في كل مكان. صحيح، لقد نتج عن بعض هذه الحروب رسوخ قوة أمريكا العالمية، واكتسابها قدرا من الهيبة. ولكن نتائج ما بعد معظم هذه الحروب كانت وبالا على أمريكا، والبلاد التي تدخلت فيها. ولم تستقر تلك البلاد إلا بعد أن رفعت أمريكا يدها الغليظة عنها.

كما أن هناك حروبا شنت لأسباب هلامية، ومبررات مكذوبة، ونجم عنها تدمير البلاد المستهدفة، وقتل وتشريد أعداد كبيرة من شعوبها، دون هدف إيجابي بناء أسفرت عنه. حتى «فوضتهم الخلاقة» كانت فوضى مدمرة. وسنلقى، في المقال القادم، بعض الضوء على هذه الحروب التي تمثل جزئية بشعة من سياسات أمريكا الخارجية.

* كاتب سعودي