-A +A
صدقة يحيى فاضل
معروف، أنه قد أصبح للعلوم الاجتماعية ككل دور بارز في خدمة البشر، عبر الاستفادة من استنتاجاتها الرئيسة والعملية. وأضحى علم السياسة في مقدمة هذه العلوم التي تقدم للبشرية العلاجات الناجعة لأمراضها الاجتماعية المختلفة. وهذا العلم يقدم «وصفات» للإدارة السليمة للدول، والكيفية الصحيحة لسياستها، وتنمية قوتها الدولية، وبقائها صحيحة سليمة متطورة، وسبل تسوية الخلافات فيما بينها.

إن وقوع دولة ما، في وقت ما، في براثن الاضطراب، و«الحرب الأهلية» (مثلاً) يعني: أن درجة الاستقرار السياسي بذلك البلد قد انخفضت، غالباً بسبب ندرة، أو تعثر عملية التنمية السياسية الإيجابية المستدامة، إلى الصفر، أو ما دونه. وفي هذه الحالة، يمكن اعتبار ذلك البلد (سياسياً) في حالة مرضية خطيرة... قد تؤدي إلى إعاقته، أو موته، للأبد، أو لسنوات...


ولا توجد، بالطبع، «مستشفيات»، بها أطباء، يعالجون الـ«دول»، ويقدمون لها الرعاية (الصحية) اللازمة. ولكن، هناك ما يمكن تسميته بـ«الطب السياسي» (أو الإجراءات الإصلاحية السياسية الحكيمة) وبه، وبواسطته، تعالج الدول المضطربة سياسياً، أو الدول المريضة سياسياً، وتلك المبتلاة بانهيار وشيك، أو اضطراب سياسي حاد، أو «حرب أهلية» في الأفق، أو ما شابه ذلك...؟!

ومن صور «الطب السياسي»: قيام منظمات، أو دول أخرى، أو شخصيات ذات خبرة وتأثير، من داخل وخارج تلك البلاد، باستخدام كل ما يمكنها استخدامه من جهود واتصالات، لوقف ذلك العناء، وإعادة الحياة الطبيعية للبلاد المعنية، إلى ما كانت عليه، أو أحسن... عبر: الوساطة بين الفرقاء المعنيين. وإن كان «علم السياسة» يقدم «تطبيباً» لـ«الجراح والأمراض السياسية» المختلفة، فإن أبرز صور هذا التطبيب هي ذلك المسعى، أو «التدخل» الذي يسمى بـ«التدخل السياسي الحميد»، إن حسنت نواياه.

ومعروف، أن ميثاق الأمم المتحدة الحالي يحظر على الدول التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض. ولكن هذا التدخل يظل قائماً دائماً، وإن تخفى واستتر. فالدول، وخاصة الكبرى، «تتدخل» بشكل أو آخر، في شؤون غيرها، وعلى مدار الساعة، وإن كانت تنكر القيام بذلك، رافعة الشعار الدولي (المراوغ) المعروف: «لا أتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، ولا أسمح لأي دولة أن تتدخل في شؤوني الداخلية»...؟! ولكن، أصبح هناك شبه قبول (دولي) للتدخل الحميد، خاصة عندما لا تكون للمتدخلين أغراض مرفوضة معينة. وقد أثبتت التدخلات الحميدة (القليلة) ضرورتها للأمن والسلم الدوليين والإقليميين، وكونها تطبيباً منطقياً وناجعاً لكثير من الأمراض السياسية الفتاكة.

***

وغالباً ما يشكل المتدخلون، في حالة الاضطراب الداخلي الحاد، فريقاً لهذا التدخل. ويحتاج ذلك الفريق إلى «إرادة سياسية» جادة، تقف خلفه وتؤيد محاولاته، للوصول إلى «علاج» لهذه الحالة المأساوية، أو تلك. أي لا بد أن يستند هذا الفريق، في سعيه لإصلاح الأمر إلى: دعم داخلي، أو خارجي مؤثر... وإلا فإنه لن ينجح في مسعاه هذا. إذ لا تكفي النوايا الحسنة، والجهود الخيرة، والرغبة النبيلة في وقف الصراعات، وسفك الدماء والتدمير، بل لا بد من وجود «قوة»، تقف وراء ذلك الفريق، وتدعم مساعيه «الحميدة» لمحاصرة الداء، وفرض تناول الدواء.

وغالباً ما تكون تلك «القوة» ممثلة في دولة، أو دول أو منظمة دولية معينة... يهمها أن «تشفي» تلك الدولة... وتعود إليها عافيتها. أي تعود درجة الاستقرار السياسي فيها إلى المستوى الطبيعي الذي يضمن سلامتها، ويكفل سير الحياة العامة فيها بشكل عادي. ولن «تتدخل» أي دولة (إيجابياً) في هذا الاتجاه، إلا إذا كان من مصلحتها (المادية والعقائدية والمعنوية) أن تشفي الدولة المعنية، وتسترد صحتها.

وعلى الدولة، أو الدول، التي تريد إصلاح ذات البين، وتتدخل إيجابياً، أن تحاول – بكل الطرق الممكنة – منع التدخل السلبي، من دول أو جهات... تنطلق في تحركها على أساس انتهازي، ومن مبدأ «مصائب قوم، عند قوم فوائد»... فالتدخل السلبي يزيد النار اشتعالاً، والجرح التهاباً، والطين بلة. ومعروف أن فوضى الاضطراب تفتح الباب على مصراعيه لكل أنواع التدخلات.

***

وفي الظروف الدولية الحاضرة، وفي ظل «قانون الغاب»، الذي يسود معظم العلاقات الدولية الحالية، يتوقع أن «تتدخل» الدول التي يهمها أمر الدولة المعنية (المريضة) بما يضمن أولاً مصالحها، ويحقق أهدافها تجاه الدولة المنكوبة... فمن الصعب تصور أي تدخل دولي (إيجابي أو سلبي) بمعزل عن مصالح المتدخلين. وغالباً ما تحاول الدول المتدخلة، ذات الأهداف الاستغلالية والانتهازية في الدولة المريضة، فرض «الحل» (العلاج) الذي يحقق أهداف تلك الدول، بصرف النظر عن مدى انسجامه مع المصلحة العامة للدولة المعنية وشعبها. وإن مدى «نجاح» أي دولة في تدخلها غالباً ما يعتمد على: مدى قوتها... نسبة لغيرها، من الأطراف المتدخلة. وفي كل الأحوال، لن يحقق «الحل» الذي لا ترضاه غالبية سكان البلد المعني الاستقرار السياسي الحقيقي المطلوب، في المدى الطويل.

***

وما ذكرناه يتم في حالة الحرب الأهلية، أو النزاع الداخلي الحاد، بين فرقاء محليين. أما عندما تعاني دولة ما من مشاكل وأمراض أخرى مختلفة، فإن الإجراء «العلاجي» لا بد أن يختلف... تبعاً لاختلاف طبيعة وخصائص وأعراض كل مرض. ففي حالة حدوث اضطراب سياسي حاد، ناتج (مثلاً) عن: قيام مجموعة محلية معينة بإزاحة حكومة بلد ما معين، والاستيلاء على السلطة، فقد نكون بصدد حرب أهلية مدمرة. وقد لا يؤدي ذلك إلى نشوب تلك الحرب، وتبقى الأزمة في إطار الخلاف الأهلي الساخن.

وهنا، على المجتمع الدولي (ممثلاً في الدول والمنظمات التي يهمها أمر الدولة المعنية، بشكل أو بآخر) أن ينظر في هذه المسألة بموضوعية، وبأكبر قدر ممكن من التجرد والحيادية، والحكمة. فإن كانت الحكومة التي أزيحت «شرعية» (ترضاها غالبية سكان الدولة المعنية) فإن على ذلك المجتمع أن يتحرك... لإعادة الحكومة الشرعية، وعدم الاعتراف بذلك «الانقلاب»، وبكل ما قد يترتب على حصوله.

أما إن كان ذلك الانقلاب ضد حكومة «غير شرعية» أصلاً، فإن منطق الحق والعدالة، يقتضي أن: يبارك المجتمع الدولي إزاحة تلك الحكومة... وفي ذات الوقت يضغط على الانقلابيين كي يمهدوا لقيام حكومة شرعية، في أقرب فرصة ممكنة، سواء بمساعدة خارجية، أو بدون هذه المساعدة. والرقابة والضغط الدوليان يكونان ضروريين في هذه الحالة... بهدف: الإسراع في إقامة الحكومة الشرعية المناسبة... حتى لا يكون الانقلابيون قد أطاحوا بحكومة غير شرعية، ليحلوا (بدلاً منها) حكومة أخرى، غير شرعية. وهذا ما يؤكد ضرورة وجود جهاز دولي مستقل ومحايد (مشفى تخصصي دولي) يهتم بهذه القضايا ويعالجها.

* كاتب سعودي