-A +A
طارق فدعق
كلمة جميلة ترمز إلى اللقاء... وتجدها محبوبة في جميع اللغات والحضارات، بل إن بعض اللغات تقرن الكلمة بالشعور الإنساني المليء بالحماس وخصوصا اللغة الفرنسية... رنديفو Rendevous... ولكن للكلمة بعض الجوانب المخيفة وقد عانيت شخصيا منها كثيرا عند حل بعض مسائل الفيزياء الخبيثة أيام المدرسة... الموضوع كان محتاجا إلى حسابات معقدة جدا نسبة إلى قدراتي المتواضعة... ضرب، وقسمة، وجمع، وطرح، وحساب مثلثات بدقة تجسد كلمتي «ألم النفوخ»...تجد نفسك فجأة في عالم آخر تطارد الزوايا والأعداد الكبيرة والصغيرة بطرق لم تتخيلها... وأتذكر أنني عندما بدأت في هذا النوع من العذاب لم تتوفر الآلات الحاسبة ولا الحاسوبات الشخصية مما أضاف الدراما القوية التي كادت تصل إلى درجة البكاء... ولكن كل هذا في واد وحسابات لقاءات الفضاء في واد آخر... فقد بدأت هذه الهيصة المخيفة في مطلع الستينات الميلادية بولادة برامج الفضاء الطموحة وخصوصا برنامج أبولو للوصول إلى القمر الذي بدأ عام 1961 وكان يهدف إلى إنزال البشر على سطح القمر قبل عام 1970. الموضوع باختصار هو أن إطلاق مركبة فضاء إلى القمر لا يتضمن إطلاق الصاروخ بشكل مباشر إلى وجهة سفره. الصاروخ هو أشبه بالوانيت لأنه أداة توصيل للمركبة ومهمته هي الوصول إلى مدار حول الأرض يسمح بالدوران بسرعة تسمح بالهروب من جاذبية كوكبنا... وبالمناسبة فتلك السرعة هي حوالي تسعة وثلاثين ألف كلم في الساعة... وعندها «تنزقل» المركبة بإرادة الله إلى خارج المدار نحو القمر على بعد حوالي ثلاث مائة وتسعين ألف كلم...وبعد ثلاثة أيام من تركها لمدار الأرض تصل المركبة إلى القمر و«تتفكفك» إلى جزأين أحدهما يهبط على القمر والآخر يحوم حوله في المدار المخطط له.... وبعدما تنتهي مهمة المركبة التي هبطت على سطح القمر، تنطلق لملاقاة المركبة الأم التي تدور حول القمر لتعود إلى كوكب الأرض...وتمثل هذه الأنشطة الفضائية إحدى التطبيقات المعقدة جدا لمبدأ «لاقيني»... وطبعا لم يكن هذا وليد لحظة اجتهاد فقد تمخض عن سنوات من المعادلات النظرية والتطبيقات العملية وخصوصا في برنامجي «مركوري» و«جيمني» الفضائيين، وكان أحد أهدافها الأساسية هو اللقاءات الفضائية على سرعات عالية وارتفاعات شاهقة ودقة متناهية. وللعلم فجميع رحلات برنامج أبوللو كانت تخضع لمبدأ الملاقاة وأهمها تناغم لقاء حركة الكرة الأرضية بأكملها مع القمر. وجميع رحلات الفضاء اليوم المأهولة للبشر تعتمد على دقة تطبيق هذا المبدأ لأنها تلاقي محطة الفضاء الدولية السابحة في الفضاء الخارجي.

وكل هذه التطبيقات في منتهى الروعة والأناقة العلمية، ولكن هناك ما هو أهم وهو الجانب الإنساني بعيدا عن تعقيدات الفضاء... «لاقيني ولا تغديني» هو أحد الأمثال التاريخية الجميلة جدا. وللأسف أنه من الأمثلة المنسية اليوم، وبالذات في خدمة الجمهور سواء في القطاع الخاص أو العام... للأسف أن في العديد من الجهات الخدمية أصبح التعامل مع الجمهور وكأنه شر لابد منه.


وأعتز وأفتخر بأنني خدمت في الدورة الأولى للمجلس البلدي في جدة. وكان فريق المجلس من أعضاء وموظفين يعتزون بمبدأ «لاقيني» لجميع سكان مدينة جدة. شاملة حق السكان في الحضور إلى مقر المجلس بدون موعد، ومقابلة المسؤولين، والحصول على فنجان شاهي ملقم.

أمنيـــــة:

بعض المصطلحات التاريخية الجميلة مثل «لاقيني ولا تغديني» تعكس المستوى الحضاري المتميز في التعامل مع الناس الذي كان دارجا في وطننا وكافة أنحاء العالم العربي، وللأسف أنه شبه منقرض اليوم. ومن المؤسف أيضا أن نشهد التدهور الحاصل في خدمة البشر، وبالذات المتقاعدين وكبار السن، وهذا من مهددات مكاسبنا الحضارية الإنسانية. أتمنى أن نعيد المعاني الحقيقية لخدمة الناس بما يرضي الله عز وجل... وهو من وراء القصد.