-A +A
غسان بادكوك
gbadkook@

من المؤكد أن الأوامر الملكية الكريمة التي تم الإعلان عنها أخيراً لم تكن استثنائية فحسب بل ومبهجة بكل المقاييس، لذلك فقد أشاعت حالة من السرور بين المواطنين؛ لم تهدأ حتى اليوم، والأهم في الأمر هو كونها جزءا من رؤية سديدة ومتكاملة لإرساء نهج جديد في البلاد، بمعنى أنها لم تكن قرارات إدارية أو تنظيمية تقليدية؛ القصد منها فقط شغل مواقع قيادية شاغرة أو دعم بعض الأجهزة التنفيذية بكفاءات جديدة، كما لم يقتصر هدفها على صرف مكافأة مالية لأبطالنا على الثغور، وإعادة البدلات والمزايا لمنسوبي الحكومة المدنيين والعسكريين؛ بعد أن اقتضت الظروف وقفها قبل بضعة أشهر.


وخلافاً للكثير ممن تفاجأوا بطبيعة (أوامر الخير) الأخيرة، فإنني كنت أترقّب صدورها بل وأتوقع الإعلان عنها في أية لحظة؛ خلال الأشهر القريبة الماضية، وسأذكر لاحقا المؤشرات الاستباقية التي دعتني لذلك، ورغم أن صدور الأوامر السامية قد حقق (تلقائياً) كل الأهداف الواردة في نصوصها، إلّا أن أهميتها الأبرز -في تقديري- تكمن في كونها انطوت على جملة من الرسائل والمضامين المهمة؛ الموجّهة للداخل والخارج، التي كان من الضروري التأكيد عليها في هذه المرحلة على وجه الخصوص، ومن أبرزها ما يتعلق بالجوانب التالية:

1- زيادة الاعتماد على جيل المؤهلين من الشباب والأحدث سناً، في المواقع المفصلية بالإدارة المحلية؛ في بلد يتميز بتركيبته الديموغرافية الشابة.

2- تأكيد عزم الدولة على محاربة الفساد بكل أنواعه عبر تفعيل نظام ظل حبيس الأدراج طويلا؛ هو نظام محاكمة الوزراء؛ ربما منذ إقراره عام 1380هـ.

3- تعزيز منظومة الأمن الوطني بإنشاء مجلسه المرتبط مباشرة بالديوان الملكي، ليضطلع بالتنسيق بين الأجهزة المعنية وتعزيز آليات اتخاذ القرار الأمني.

4- كفاءة الإصلاحات الاقتصادية التي اتخذها مجلس الشؤون الإقتصادية والتنمية -بموافقة الملك- لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط.

5- التأكيد مجدداً على اصطفاف الدولة مع المواطنين؛ وحرصها على توفير أسباب العيش الكريم لهم؛ رغم الظروف المالية غير المواتية.

6- خصوصية وتميّز العلاقة التي تربط بين القيادة والشعب في المملكة، كونها علاقة غير قابلة للمزايدة ولا مرتبطة بمنافع آنية.

7- إنهاء (تقليد) استمر طويلا هو التعامل مع الوزراء (المقصّرين في أداء مسؤولياتهم) بإعفائهم (حسب طلبهم)، والتأكيد على أن جودة الأداء والنزاهة هما معيارا استمرار المسؤولين في المواقع التنفيذية العُليا.

وبالطبع فإن توقعي لصدور تلك الأوامر لم يكن من قبيل الاجتهاد، كما لم يُبنَ على الحدس بقدر ما أستند إلى مؤشرات لها دلالاتها الواضحة التي لا يمكن أن تخطئها عين مراقب؛ فمنذ تولّي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -يحفظه الله- مقاليد الحكم، بادر إلى اتخاذ سلسلة من القرارات التحوّلية وغير المسبوقة؛ بدأها بإسناد ثاني وثالث أرفع منصبين في الدولة والحكومة إلى أميرين قديرين من أحفاد الملك المؤسس (طيّب الله ثراه) وذلك للمرة الأولى في تاريخ المملكة.

التوجّه السابق كان إيذاناً ببدء حقبة سعودية جديدة يتبوّأ فيها أبناء الجيلين (الثالث والرابع) من الأسرة المالكة الكريمة مناصب قيادية (عُليا) على قمّة هرم السلطة في البلاد؛ يساهمون من خلالها في إدارة شؤون المناطق. ما سبق لم يكن المؤشر الوحيد لتوقّع نهج (انتقالي) بعيد النظر؛ يهدف لدعم استقرار البلاد وتنويع اقتصادها وإرساء قواعد جديدة لتطوير أداء الحكومة، وإنما تبعه منظومة من القرارات الحكيمة والأوامر السامية التي أكّدت عزم المليك على الانتقال بالمملكة لمستقبل واعد.

ويبدو جلياً الآن أن ملامح ومرتكزات العهد السعودي الجديد كانت شاملة وواضحة وممنهجة في ذهن خادم الحرمين الشريفين، إذ سرعان ما شهدنا أوّل تشكيل حكومي في عهده وقد ضم عدداً من الوزراء الشباب؛ تقل أعمارهم عن الأربعين، وهو أمر نادر الحدوث، ليتبعه بفترة قصيرة صدور قرارات غير مألوفة سابقاً؛ الهدف منها التأسيس (عملياً) لمبدأ المساءلة والمحاسبة، فشاهدنا إعفاءات وزارية لم يتأخر صدورها بعد أول بوادر لتقصير أو تجاوزات تصدر عن بعض كبار المسؤولين.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل كان قرار إطلاق عاصفة الحزم بمثابة رسالة قوية بأن المملكة قد استنفدت صبرها على التجاوزات الإيرانية الرامية لزعزعة استقرارالمنطقة، فبادرت الدولة للاستجابة لطلب الحكومة الشرعية في اليمن الشقيق لإنقاذه من براثن أذناب الملالي وحلفائهم، وأتبع ذلك قرار مفصلي برفع الدعم تدريجياً عن المرافق الأساسية، وهو ما مهّد لإعلان رؤية المملكة 2030 وإطلاق حزمة من برامج التحول المالي والاقتصادي والمجتمعي والصناعي، والتي توفّر مناخاً آمناً للانتقال بالمملكة لعصر ما بعد البترول.

وإيماناً من الملك سلمان بأهمية استمرار الدعم الموجّه للسعوديين ولكن بعد تقنينه وتطوير آلياته، تم اعتماد برنامج (حساب المواطن)؛ وهو إحدى أهم المبادرات الحكومية منذ تأسيس البلاد؛ كونه يهدف لتحقيق مطلبين رئيسيين هما توجيه الدعم لمستحقيه، وحماية ذوي الدخل المحدود والمتوسط من أعباء إصلاح الإقتصاد، ومن المقرر أن يتم بعد غدٍ الإثنين الأول من مايو الرفع للمقام السامي بالسياسات المقترحة للبرنامج من قِبل اللجنة المعنية المشكلة لهذا الغرض تمهيداً لإقرارها.

أخلص إلى القول إن المضامين والرؤى التي تضمنتها أوامر الملك سلمان هي بمثابة ضمانة قوية لاستقرار البلاد، وتعزيز الأمنين الداخلي والخارجي؛ رغم الاضطرابات المحدقة بالمنطقة، كما أنها تأكيد جديد على التزام الدولة بدعم مواطنيها، وتهيئة الفرص المناسبة لشباب الوطن كي ينعموا بمقدراتها، وتفكيك منظومة الفساد، وتنحية المقصّرين وتقديم الفاسدين للعدالة.

gbadkook@yahoo.com