-A +A
صدقة يحيى فاضل
كثيراً ما يزور مسؤولون أمريكيون تايوان، تعبيراً عن الدعم الأمريكي لها. ولكن، لم تثر زيارة رسمية لأي مسؤول حكومي، في الآونة الأخيرة، لبلد آخر، ما أثارته زيارة السيدة «نانسي بيلوسي»، رئيسة مجلس النواب الأمريكي حالياً (من الحزب الديمقراطي، عمرها الآن 82 عاماً)، لتايوان... أخطر جزيرة في العالم، كما توصف حالياً، بسبب كونها السبب الأول للخلاف والصراع الأمريكي- الصيني، كما سبق أن أشرنا. هذا الصراع الذي، لو تفاقم، قد يصل لدرجة نشوب حرب عالمية «ثالثة» بين هذين العملاقين وحلفائهما. هناك، ولا شك، «أسباب» عدة خطيرة للصراع بين أمريكا والصين. ولكن تظل مطالبة الصين بتايوان، ورفض الأمريكيين استعادة الصين لها، أهم أسباب الخلاف الحاد، بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية.

تضمنت جولة آسيوية قامت بها بيلوسي، زيارة تايوان يوم الثلاثاء 2 أغسطس 2022م، حيث التقت برئيسة تايوان، وبأعضاء البرلمان التايواني. ولم تكتفِ باللقاءات، بل أصدرت تصريحات عدة، تحمل «التأييد للشعب التايواني» والإشادة بـ«كفاحه من أجل الديمقراطية»..! وبالطبع، فإن هذه الزيارة، وباعتبارها تأتي من ثالث أهم القادة الأمريكيين، وما تخللها من تصريحات وتلميحات، اعتبرتها الصين، استفزازاً أمريكياً رسمياً، يثير الغضب، ويعكس استمرار أمريكا في دعم انفصال تايوان عن الصين الأم. الأمر الذي يعود بالسلب على العلاقات الأمريكية- الصينية.


وسبق لبيلوسي، كعضو بالكونجرس، أن قامت بزيارة رسمية لبكين عام 1991م، بعد عامين من أحداث ميدان «تيان ان مين» التي شهدت مطالبات شعبية صينية عارمة بالديمقراطية. أيدت بيلوسي تلك المطالب، ودعت لتحرير التبت، من قبضة بيكين. فهي من أشد المؤيدين لانفصال التبت. وتعتبر زيارتها الأخيرة لتايوان هي زيارة لأعلى مسؤول أمريكي يزور الجزيرة منذ عام 1997م، عندما قام «نيوت جينجريش»، رئيس مجلس النواب الأمريكي، عندئذ، بزيارة للجزيرة، جوبهت بمعارضة صينية شديدة، وإن كانت أقل من المعارضة الصينية لزيارة بيلوسي. وبالطبع، شكرت رئيسة تايوان «تساي إينغ-وين» بيلوسي على «عملها الملموس لدعم تايبيه، في هذه اللحظة الحرجة». وقالت: «إن تايوان لن تتراجع في مواجهة التهديدات العسكرية الصينية، وإنها ستظل، اعتماداً على الدعم الأمريكي، مستقلة». واستنفرت، في هذه الزيارة، قوات صينية وأمريكية، وأيضا تايوانية.

****

وتعود المعارضة الصينية المشددة -الكلامية والفعلية- لهذه الزيارة، لأسباب عدة، أهمها: كون الزيارة تأتي من ثالث أهم مسؤول بالإدارة الأمريكية، وتهدف لإظهار دعم أمريكي حازم لبقاء تايوان منفصلة عن الصين. الأمر الذي يجرح الكرامة الوطنية الصينية، ويسهم في إمعان تايوان في الانفصال، والاستقلال. إضافة لكون هذه الزيارة تعد إخلالاً بتعهد الولايات المتحدة الرسمي باحترام مبدأ «الصين الواحدة»، الذي يعنى، ضمناً، كون تايوان جزءاً لا يتجزأ من الصين. ومن هنا شدد الرئيس الصيني «شي جي بينغ»، الذي يبدو أنه أكثر رؤساء الصين تصميماً على استعادة تايوان، ولو على غرار استعادة منطقة «هونج كونج»؛ وذلك كهدف رئيس لفترة رئاسته، وطالب الولايات المتحدة بـ«عدم التدخل في شؤون الصين الداخلية، واللعب بالنار». ومنذ توليه الرئاسة، أعلن بأن تايوان هي جزء من الصين، وتعهد باستعادتها قريبا، ولو بالقوة.

واستدعت الصين السفير الأمريكي ببكين، وبلغته احتجاجها الشديد، وأعلنت التعبئة العسكرية، وأخذت بوارج وطائرات حربية صينية تخترق المجالين الجوي والبحري لمشارف تايوان. وكانت وزارة الخارجية الصينية قد أعلنت أن للصين سلطة قضائية كاملة على مضيق تايوان، وهو المضيق الفاصل بين تايوان والبر الصيني، الذي تعتبره الصين ضمن مياهها الإقليمية، وليس ممراً مائياً دولياً. بينما تصر أمريكا على اعتباره مياهاً دولية.

****

وتايوان بالنسبة لأمريكا، تعتبر بلداً بالغ الأهمية، لكونها أولاً مهمة جداً للصين، سياسياً واستراتيجياً، ولما تحظى به من موقع استراتيجي عالمي متميز، وموارد بشرية وصناعية كبيرة. وأبدت إدارة جوزيف بايدن، ظاهرياً، حرجها، وعدم رضائها التام عن هذه الزيارة. ولكنها أكدت أن «من حق رئيس مجلس النواب الأمريكي الذهاب لأي مكان». كما ردد المتحدثون باسمها عبارة: أن الولايات المتحدة تعارض تغيير الوضع بين الصين وتايوان، بإجراء أحادي. وهذه العبارة كثيراً ما يرددها المسؤولون الأمريكيون بشأن هذه القضية، واعتبرت ملخصاً للاستراتيجية الأمريكية تجاه تايوان.

تلك الاستراتيجية (السياسة) التي تتبنى غموضاً مقصوداً، له دلالات مختلفة؛ إذ تعني الاعتراف بحكومة صينية واحدة، وهي حكومة بكين. والاستمرار بتقديم حماية ودعم أمريكي حاسم لتايوان. مع الامتناع عن توضيح ما إذا كانت ستدافع عنها عسكرياً، في حال حصول غزو من الصين لاستعادتها، أم لا. وجسد تصريح لوزير الخارجية الأمريكي «أنتوني بلينكن»، بمناسبة زيارة بيلوسي، هذا الغموض (المقصود) عندما قال: «لدينا اختلافات كثيرة بشأن تايوان. لكن خلال السنوات الأربعين الأخيرة، تمكنا من إدارة هذه الاختلافات، وقمنا بذلك بطريقة حافظت على السلام والاستقرار». وشجب كل خصوم أمريكا هذه الزيارة، خاصة روسيا، واعتبروها محض استفزاز.

****

ومسألة تايوان تذكر بما فعله الغرب الاستعماري في المنطقة العربية، إذ لم يتمكن هذا الاستعمار من خلق «إسرائيل» في قلب الصين؛ لتكون خنجراً يعيق الأمة الصينية عن النهوض، ويشغلها، ويعجزها عن الوقوف على قدميها، رغم أنه حاول عمل شيء من هذا القبيل. فلم تستطع بريطانيا وأمريكا جلب أناس يدعون أن إحدى المقاطعات الصينية هي ملك لهم..! لأن أناساً منهم عاشوا فيها قبل حوالى ألفي عام! وأن من حقهم أن يطردوا أهل تلك المقاطعة المنكوبة، ويقتلوهم ويشردوهم، لتحل مكانهم عصابات من هؤلاء «البشر»، تأتي من شتى بقاع الأرض، لتستوطن في أرض غيرها!

نعم، ساهم المستعمرون في إقامة «تايوان»؛ لاستخدامها كقاعدة متقدمة بالباسيفيك ضد الصين، وكمنطلق لوجستي موات؛ لتنفيذ مخططاتهم، التي فشلوا في تنفيذها في الماضي. ولكن الصين تمكنت من مواجهة هذه المؤامرة، وعزل تايوان، وقد تستعيدها قريباً، كما استعادت هونج كونج وماكاو. ويبدو أن هناك ثلاثة احتمالات بهذا الخصوص خلال المدى القصير؛ إما أن يستمر الوضع كما هو عليه الآن، أو تغزو الصين الجزيرة، وتضمها عنوة، أو يتم ضم تايوان للصين سلماً، ووفق شروط، قد يكون منها ضمان حكم ذاتي للجزيرة. وفي كل الأحوال، تظل أمريكا طرفا محوريا ثالثا في هذه القضية، التي تعتبرها الصين شأنا داخليا.