-A +A
عبداللطيف الضويحي
ارتبطت الجدران والأسوار عبر العصور ومراحل التاريخ بالأمن والهاجس الأمني، فقد كان الأمن ولا يزال قضية الإنسان المحورية حيثما كان، في المدينة أو الصحراء، في الماضي والحاضر أو المستقبل، فتعددت وتنوعت أساليب وأدوات تحقيق ذلك الأمن المنشود. فكانت الجدران والأسوار والقلاع والحصون في قمم الجبال وحول سفوحها واحدة من أبرز مظاهر تحقيق الأمن الرمزية والعملية، لكن الأمن المنشود ظل باستمرار مفقودا وعزيزا على من ينشده، إلا في محطات عابرة من محطات التاريخ، فالجانب النفسي في الأمن هو مبعث الطمأنينة والأمن الحقيقي.

لكن الخطوة التي قامت بها أمانة المدينة المنورة سبقت كثيرا من نظيراتها الأمانات عندما وصلت إلى استنتاج استشعرت معه أهمية التخلي عن جدران أمانة المدينة المنورة وأسوارها، حيث قررت إزالة أسوار الأمانة فاتحةً بذلك باحاتها وساحاتها وحدائقها ومسطحاتها الخضراء للجمهور العام في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم من السكان والزائرين.


لقد أدركت هذه «الأمانة»، وقبلها وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان، أن رمزية الجدران لم تعد مهمة مقارنة بالمردود البيئي والنفسي والمناخي، ناهيك عما تتسبب به تلك الأسوار من تشوه بصري وضرر بالغ للمشهد الحضري. فهل تستدعي معطيات العصر إعادة قراءة وفهم تلك الجدران والأسوار بما يمليه الوعي والفهم والذوق المعاصر، خلافاً لكل الدلالات والمفاهيم التاريخية والثقافية السائدة عن تلك الأسوار والجدران؟ هل أصبحت تلك الجدران والأسوار عبئا حضريا على المشهد البصري والفهم المعاصر لجودة الحياة وعلى المردود النفسي والبيئي والصحي؟

هل أضحت إزالة الأسوار والجدران فلسفة جديدة تمليها متغيرات ثقافية عامة؟ أم هي مفاهيم عصرية للتخطيط العمراني المعاصر؟ أم أنها أولوياتٌ أملتها قضايا البيئة والمناخ والمياه والاقتصاد؟ هل هي ضرورات فرضتها أنسنة المدن ومستهدفات سعادة الإنسان وجودة الحياة والمدن الصديقة للإنسان؟

هل اكتشفت «الأمانة» وقبلها «الوزارة» مفهوما جديدا لأمن المؤسسات العامة من خلال بناء علاقة جديدة مع المجتمع قائمة على الصداقة فجعلها صديقة للإنسان والطبيعة والبيئة، خلافا للمفهوم التقليدي القائم على التمترس والتقوقع خلف الجدران والأسوار؟ هل يمكن أن تستبدل المؤسسات العامة وغيرها الثقة المتبادلة مع جمهورها بأمن الجدران والأسوار، بحيث أصبح الرهان على كسب ثقة وولاء المجتمع والمشاركة معه وبه؟

هل أصبح الأمن السيبراني والحمايات الإلكترونية والرقمية وريثاً طبيعياً وشرعياً لأمن الأسوار والجدران؟ هل يكون الأمن المستقبلي هو الأمن الذي يوفره الذكاء الصناعي والرقمنة حيث الخطر خارجيا وبعيدا ومتنوعا وخفيا؟

هل بات علينا إعادة قراءة مفهوم الأسوار وفلسفة الجدران من منظور العصر الرقمي والأمن السيبراني ليس في المؤسسات العامة بل حتى في بيوتنا وحياتنا الخاصة؟ هل تشهد المرحلة القادمة نزعة كبيرة بين المؤسسات العامة للتخلي عن جدرانها وأسوارها كما تتخلى اليرقة عن شكلها لتصبح شرنقة ثم شكلها النهائي؟ لماذا لا نفكر استباقيا بتشكيل مرجعية إدارية وفنية تضع المعايير المطلوبة لتزيل المؤسسة جدرانها وأسوارها على قاعدة صلبة من الدراسة والفهم لهذه الحاجة التي ستحتاجها الكثير من المؤسسات قريبا؟