-A +A
بشرى فيصل السباعي
حقاً ما أشبه اليوم بالأمس فأجواء الغزو الروسي لأوكرانيا وردة فعل العالم تجاهه ذكّرت العالم بأجواء غزو أمريكا للعراق عام 2003م حيث شهد العالم حينها بما فيه أمريكا مظاهرات مليونية معارضة لإعلان أمريكا نيتها غزو العراق واستمرت المظاهرات لأشهر خلال محاولة أمريكا حشد التأييد العالمي للغزو، لكنها فشلت بالحصول على أي تأييد داخل وخارج مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة والهيئات الدولية المعنية بالتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل التي تصدت لمزاعم أمريكا بوجود مبرر للغزو يتعلق بعدم تعاون العراق مع المفتشين الدوليين التابعين لها؛ ولذا تم منح رئيسها «محمد البرادعي» جائزة نوبل للسلام، لكن ماذا بعد الغزو الروسي لبلد لم يعتدِ عليه وسط وباء قتل الملايين بحيث إن من لم تقتله العمليات الحربية ستقتله العدوى بكورونا التي انتقلت إليه بسبب اضطراره للبقاء في الملاجئ الجماعية التي يحتمي بها المدنيون من القصف ومخيمات اللاجئين؟ أمريكا اضطرت للانسحاب من الدولتين اللتين غزتهما أفغانستان والعراق دون تحقيق أي مكاسب استراتيجية رغم أن كلا البلدين أضعف عسكرياً من أوكرانيا، وأمريكا أقوى عسكرياً من روسيا وأقدر مالياً على تمويل التكلفة العالية للحرب، ولم تتعرض لعقوبات اقتصادية كروسيا، والغرب يسلح ويمول أوكرانيا ويدعم مقاومتها، لذا ما سيحصل هو أن الاقتصاد الروسي المنهار أصلاً سيشهد كارثة غير مسبوقة مع العقوبات الاقتصادية التي فرضت على روسيا يترتب عليها اضطراب بالاستقرار العام، وهذا فوق تكاليف العمليات العسكرية ذاتها، وستضطر روسيا للانسحاب عاجلاً أم آجلاً أيّاً كانت النتيجة العسكرية التي حققتها أو لم تحققها في أوكرانيا تماماً كما حصل مع أمريكا وحصل مع الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، والعالم لم يعد مجرد قرية صغيرة كما درج القول منذ بدايات العولمة تسعينات القرن الماضي، فالعالم حالياً بات أشبه بآلة اقتصادية موحدة كبرى متعددة الأجزاء وكل جزء منها في بلد، ولذا أي تيارات أو جماعات أو أحداث تهدد سلامة وكفاءة عمل أي جزء من الآلة الاقتصادية العالمية فهذا تلقائياً يهدد اقتصاديات كل دول العالم واستقرارها السياسي والاجتماعي، ثم ماذا تخبرنا ردة فعل العالم وتحديداً شعوب الدولتين اللتين قامتا بالغزو أي الشعب الأمريكي عند غزو العراق؟ والشعب الروسي عند غزو أوكرانيا عن مستقبل مبدأ الغزو والحرب العدوانية؟ ما تخبرنا به المظاهرات المعارضة للحرب التي حصلت داخل أمريكا عندما أرادت غزو العراق، وداخل روسيا عندما غزت أوكرانيا هو أن العالم وصل إلى مفصل فارق في مسيرة تطوره وترقيه عن أنماط المستوى الغرائزي البدائي اللاواعي والتي أبرزها تسوية الخلافات وتحقيق المصالح الأنانية بطريقة النزعات المشتركة مع الحيوانات أي عبر فرض الهيمنة بالعنف، فحتى الحيوانات والحشرات كالنمل تقوم بالغزو لمناطق الجماعات الأخرى وتغنم ما في منطقتها من موارد وتحتلها، ولذا كلما تحضرت وتطورت البشرية وارتقت عن المستوى الغرائزي البدائي اللاواعي كلما تسامت عن هذا النمط الغرائزي ورأته غير مقبول بالعالم المتحضر وقيمه الإنسانية، ولذا رغم كل إحباطات الوضع الحالي العالمي فالمستقبل مشرق ومبشر بانقراض مبدأ الحرب والغزو والإرهاب، ويمكن لكل فرد أن يساهم في تعجيل الوصول إلى ذلك المستقبل الجميل بالتوقف عن إنتاج وتداول كل ما يمت بصلة لثقافة العنف والترفيه بالعنف، والتوقف عن تأييد تيارات العنف المادي أو المعنوي وزعمائها كالتيارات اليمينية والديماغوجية/‏المتعصبة التحريضية، وتكريس رؤية وتصور مستقبلي ملهم يتم فيه إظهار انقراض مبدأ فرض الهيمنة بالاضطهاد والعنف والحرب والإرهاب كواقع افتراضي بمواد الترفيه، ولعل أكبر مفارقة أن الكل يركز على النبوءات الدينية حول الحرب الشاملة بآخر الزمان ولا أحد يذكر نبوءات السلم الشامل؛ قال عليه السلام عن نبوءات آخر الزمان: (وترفع الشحناء -السلبية العدوانية- والتباغض، وتنزع حمة كل ذات حمة -الحمة: العدوانية وغريزة الأذية -حتى يدخل الوليد يده في الحية، فلا تضره، وتضر الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء.. وتضع الحرب أوزارها) الألباني/‏صحيح الجامع، أبو داود، وابن ماجه. وقال (..ويرجع السلم وتتخذ السيوف مناجل وتذهب حمة كل ذي حمة.. حتى يلعب الصبي بالثعبان فلا يضره ويراعي الذئب الغنم فلا يضرها) رواه أحمد. (..لتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد) رواه أحمد ومسلم. وهي نبوءات مذكورة أيضاً لدى اليهود والمسيحيين.