-A +A
محمد الساعد
بقيت الجزيرة العربية معزولة -عمداً- طوال أكثر من 5000 عام داخل مناطقها الجغرافية بلا أموال ولا علاج ولا طرق ولا تعليم ديني، ولم تعش الجزيرة العربية في ظل الدولة المركزية إلا الخمسين السنة الأولى من العصر الإسلامي، عندما كانت العاصمة في المدينة المنورة، ليغادرها الاهتمام مع خروج الدولة بكاملها إلى الشام.

مع خروج الدولة الإسلامية إلى دمشق سنة 51هـ، ثم إلى بغداد 132هـ، ومن بعد ذلك إلى الأندلس والقاهرة، ازداد إهمال الجزيرة العربية تماما، وكلما دخلنا إلى أعماقها لم نجد إلا النزر اليسير ليد الدولة العربية المركزية، وهي الدولة التي اهتمت أكثر بحواضر دمشق وبغداد، وعند الاستشهاد بالحرمين وطريق عين زبيدة وسدود الطائف -على سبيل المثال- سيكون ذلك تأكيدا لما نقوله، فهي خدمة محدودة وواجبة للحرمين الشريفين لا أكثر، وتهدف لخدمة الزوار والحجاج، ولكن ذلك لم ينعكس على السكان المحليين المنتشرين على مساحة الجزيرة العربية.


هذه العزلة والفاقة وقلة الموارد وعموم الجهل والموت بسبب الجوع والمرض وانتفاء دور الدولة المركزية القادرة على بناء المجتمع وحمايته والصرف عليه دفعت جزءا كبيرا من قبائل الجزيرة في العصر الإسلامي الوسيط -بين 300هـ، 600هـ- للتسرب إلى خارجها على مراحل باتجاه الشام والعراق ومصر وشرق أفريقيا، بل حتى إلى أواسط أفريقيا، كانت تلك الهجرة -القسرية- هي أول إعلان حقيقي عن عدم قدرة القبائل الكريمة على الصمود بدون وجود دولة مركزية قادرة على دعمهم للصمود في وجه ظروف الجزيرة العربية الصعبة، تلك الفترة صحبها أيضا جفاف شديد زاد من استحالة البقاء.

كان خروج دولة مركزية في الجزيرة العربية أمرا حتميا وقدريا، فلم يعد المكون السكاني قادرا على البقاء من دون سلطة جامعة وعادلة وقادرة على بناء التنمية وفرض الأمن والأمان المسلوب من حياتهم نتيجة الظروف القاسية، لذلك بدأت إرهاصات النهضة العربية الحديثة ليس من بغداد التي دمرها المغول، ولا من دمشق التي تنازعها الأمراء والولاة، ولا من الأندلس التي سقطت بسبب إهمال العثمانيين لها، بل من أواسط نجد ومن أعماق الجزيرة العربية، ويا للمفاجأة المدهشة، فالجزيرة التي أهملت ولم تتلق طوال تاريخها أي اهتمام ولا تعليم، استطاعت أن تخرج من بين الرمال مقدمة للجزيرة العربية أول نهضة منذ انطفاء بغداد والأندلس.

على يد الإمام محمد بن سعود، استطاعت الدرعية أن تقدم فكرة الدولة القادرة على الإدارة المحلية والتطلع نحو العالم، وهو ما حصل في عهد الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، الذي تواصل مع أمراء وحكام وسلاطين الدول المجاورة، ومنهم السلطان سليمان العلوي في المغرب.

لم يستغرق الأمر سوى بضع سنوات من خروج الدولة السعودية الأولى حتى التفتت إسطنبول لأعماق الجزيرة العربية لأول مرة، لكنه التفات عسكري، لقد أحست بالخطر الجسيم على مشروعها الأعجمي وعلى شرعيتها في العالم العربي والإسلامي، فالعرب ينهضون ويستفيقون من عزلتهم التي فرضتها الصحارى تارة والسياسي في دمشق وبغداد وإسطنبول تارة أخرى.

لم تستطع الإستانة قبول منافس عنده الشرعية الحقيقية، فالدولة السعودية القادمة من الدرعية مدعومة بحاضن شعبي مؤمن بها، استطاعت في عقدين فقط التمدد من سواحل عمان على المحيط الهندي جنوبا إلى أوساط الشام والعراق شمالاً، مع سيطرة على معظم الجزيرة العربية بما فيها المدن المقدسة مكة والمدينة.

لقد فضل العثمانيون الحرب على حسن الجوار، فحرضوا ثلاث ولايات هي العراق والشام ومصر ضد الدولة السعودية الأولى، سبع سنوات كاملة هي عمر الحملات العثمانية القادمة من البصرة، ومن مصر لإسقاط الدرعية التي صمدت طويلا واستطاعت الدولة السعودية الأولى أن تبرهن على صلابتها وطول أسوارها في مواجهة العنف العثماني حتى أنهكتها المدافع والمذابح والترحيل القسري عندما سقطت العام 1818م، لم تسقط الدرعية هكذا، بل تبعها تجريف للتراث والسياسة والاقتصاد والبناء الاجتماعي في نجد، من أجل القضاء على أي أمل في عودة الدولة المركزية إلى الجزيرة العربية مرة أخرى.

لكن أمرا مهما لم يستطع الباشوات اقتلاعه، وهو العلاقة الوجدانية بين القبائل والأسر في الجزيرة العربية والتي لن تفرط في دولتها ولا في الولاء للعائلة الحاكمة من آل سعود الكرام، فبعد سبع سنوات فقط من سقوط الدرعية استطاع الإمام تركي بن عبدالله بن محمد آل سعود استعادة الحكم وتأسيس الدولة الثانية، ولكن من الرياض هذه المرة، لتؤكد من جديد أن الجزيرة العربية بكل مكوناتها لن تقبل العزلة مرة أخرى، وستبقى جذوة النهضة قائمة وقادمة من بين جدران الرياض والدرعية وكل مدن وبوادي وحواضر المملكة العربية السعودية.