-A +A
فؤاد مصطفى عزب
ولأن بالقلب مدافن للذكرى، أزورها كل ما حل بي الشوق، كلما أبحرت في نفسي أكثر، تذكرت أكثر، أحياناً تأتيك، هذه الذكرى على شكل قطرات مطر، تهمس على سقف بيتك، تذكرك بشيء من أيام العمر، تجعلك تقرأ الأيام كما كانت، بفصولها المثيرة، وقطرات أمطارها ووديانها العميقة، كنت في (روسيا) يوماً، وكان معي مرافق عراقي، كلفته السفارة بمرافقتي، يجيد الروسية، لا الدهر دهره ولا الأيام أيامه، ولكنه رجل، نبيل، قلبه مرصع بياقوت الكلام، يضيء الكون حباً وجمالاً، رجوته يوما أن يبعدني عن جو المدينة، التي لم يعد يحدها طول ولا عرض، ولا قرب ولا بعد، لا شكل لها ولها كل الأشكال، أكداس من النمل تسد الطرقات، حالمين أو صامتين كالذئاب، ليأخذني لقرية صغيرة في حجم حبة قمح، تدعى (فولتشانسك) يشبه اسمها إحدى مدن روسيا في الكيان الفيدارلي الروسي، قرية ليلها حافل بالنجوم والفراشات، تلهث كلاب الرعاة في أجف السواقي، والضفادع تنق حالمة في المساء على حافة الأنهار، والقمر يستسلم ضوؤه لملاطفات أسطح المياه، عازف في ركنه يعانق آلة (الالايكا) الروسية بوداعة، كأنه يصغي إلى بطن حبلى، بينما أصابعه تعذب الأوتار، ما زال شاحذ السكاكين يعيش هناك مثل نبوءة نسيناها، يقدح بين يديه الحجر ناعقاً للنائمين في القيلولة، بأنة جاء ليشحذ السكاكين، هنا إن أعطيتني الناي، أو لم تعطني، لأغني، سيان، فهناك يمكنك أن تشتري الناي والمغني بدولار، رغم كل ذلك، لفت انتباهي (مركز صحي أنيق) عرفته من الشعار العالمي الذي يعلو المبنى، بني من طابقين، يغطي سطحه القرميد النبيذي الداكن، وجدرانه من الحجر الصخري الجميل، أنا في النهاية (مخطط ومشغل صحي) لا الطبال المتحمس يزعجني، ولا نافخ المزمار يستدر انتباهي، هناك نقطة ضعف يصعب علي تجاوزها، وهي حالما أستشعر نظاماً صحياً في مداري، تنمو في دماغي أشواك إبرية الإضاءة تبحث عنه، وهذا ما حدث، تقدمت من المكان، وجدت بداخله طبيباً شاباً، عرفته بنفسي، وهدفي، استقبلني بحرارة بالغة، لم يكن يلبس ساعة يدوية فاخرة، لم يكن يرتدي حذاء من(ليوفوتن) أو ربطة عنق من (كوتشي) تحدث لي كرفيف ماء بإنجليزية واضحة، كرفيق هواء، كمنتهى السحر، طاف بي في المكان حيث الدور الأرضي عيادات مختلفة، يجاورها قسم للمختبر والأشعة، والدور العلوي أسرة، وغرفة عمليات بسيطة، كان يشرح لي النظام الصحي بالقرية ونحن نتجول في المركز، وما يقدمونه، مستهلا كلامه، بجملة في منتهى الحكمة، قال لي «الألم في هذه القرية أعمق.. لكن التحليق أعلى» كانت رسالته سهلة القراءة، جعلني أذكر كل ما نسيت، لأنسى بعض ما أريد، هذا يفعله المطر، وكان ذلك الطبيب مطر خير، كان ملاك المكان ونوره، قال لدينا أقل مما يكفي وأكثر مما نحتاج، أقل مما يكفي كوننا أربعة أطباء ونخدم كامل القرية، وأكثر مما نحتاج، كون منا من هو بدرجة استشاري وهذا أكثر مما نحتاج للقيام بالرعاية الأولية، وما نفعله هو أننا نسعى بكل ما فينا أن نعزز صحة الساكنين هنا وإطالة حياتهم أصحاء، نحاول إبعاد المرض عنهم، نقيهم من الأمراض المعدية ما أمكن، ونعالج معظم الأمراض، وما نعجز عنه نحيله للمستشفى القريب من القرية، بعد التنسيق معهم، وشرح لي نظام إحالة دقيق كاملا، وأكمل، لدينا دائما كل ما نحتاجه ولمدة شهرين، قبل أن نصل لنقطة الصفر بفترة كافية، تصلنا جميع الاحتياجات، نظام صحي متكامل يقدم عبر (مركز صحي) لفت انتباهي شيء جميل مكتوب باللغة الروسية، خلف مكتبه، سألته ما هو، قال لي «إن التماثيل لا تمرض.. فمرحباً بك أيها الإنسان» أنهى قهوته قائلاً، سعدت باستضافتك يا دكتور، «في كهفي الآمن» قالها كمصدر أمن، وهو صادق فهذا ما تعلمناه وأكده علينا من درسونا «أن الرعاية الأولية هي مصدر الأمن والأمان وخط الدفاع الأول، والسد العازل، الذي إن انهار، جرت المياه في كل الاتجاهات، وأغرقت الأخضر واليابس»، وقفت بعد قضاء يومين في تلك القرية وبانتظار قطار لا أريده أن يجيء، هو قطار قديم، يسير على شبكة سكة حديدية، بناها جنود ألمان في عام ١٩٥١م سقطوا أسرى في يد الجيش السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، لكي يبقى هذا القطار على قيد الحياة، تحتاج القرية سنوياً لتبرعات قدرها ١٨٠ ألف دولار، لصيانة سكة الحديد، أرمق امرأة وأنا أنتظر القطار، تشرب شيئاً، في إحدى الزوايا، معها رجل سوف تودعه بعد قليل، هذا ما تقوله زرقة عينيها المخضلتين، تحت خصلاتها الذهبية النافرة، هذا ما يقوله جدول اللقاءات والوداعات، وداعاً أيها الأحباب، وإلى أربعاء قادم..!

كاتب سعودي


Fouad5azab@gmail.com