-A +A
حمود أبو طالب
في موضوع الصحة هناك عبارة تختصر كل النظريات، تقول إن الفرق بين الدول التي نجحت في الوصول إلى أفضل مستوى صحي لمجتمعاتها والدول التي لم تنجح أن الأولى كانت تفكر في الصحة والثانية تفكر في المرض. هذه العبارة صحيحة تماما ويكمن فيها الفرق الكبير بين تفكيرين مختلفين أو متضادين، انتظار الأمراض والتعامل معها بعد حدوثها وانتشارها عن طريق الطب العلاجي، أو تعزيز الصحة لتقليص الأمراض باتباع فلسفة الطب الوقائي بكل أنواعه وأساليبه وقنواته، وإشراك المجتمع بكل مؤسساته التعليمية والثقافية والإعلامية والاقتصادية في تنفيذ هذه الاستراتيجية. وللأسف الشديد نحن منذ نشأة وزارة الصحة ثم بقية القطاعات الصحية نفكر في المرض وعلاجه، ورغم أنه توجه خاطئ في الأساس، إلا أننا أيضا لم نحقق فيه نجاحا معقولا يوازي الميزانيات الكبيرة المخصصة للصحة.
يدفعنا للحديث عن موضوع الصحة التغييرات المتلاحقة السريعة التي شهدها كرسي وزير الصحة ونتج عنها خمسة وزراء خلال فترة قصيرة جدا، آخرهم الوزير الذي تم إعفاؤه قبل يومين وأثار إعفاؤه مجددا قضية الخدمات الصحية في مواقع التواصل الاجتماعي من خلال نقاش واسع شارك فيه عدد كبير من شرائح المجتمع، وبين ثنايا النقاش استعاد البعض المقولة الشائعة بأن وزارة الصحة مقبرة الوزراء، وأنها استعصت على الطبيب والإداري والمهندس والاقتصادي وغيرهم من أصحاب التخصصات الأخرى، والحقيقة أن هذه المقولة لا بد من تفكيكها وإحالتها إلى أسبابها الجذرية.

حتما سيفشل أي وزير، أو على الأقل لن ينجح كثيرا مهما كانت كفاءته وخبرته ومهنيته وإخلاصه ونزاهته وهو يدير وزارة حيوية حساسة مقيدة بالأنظمة الإدارية والمالية المعيقة للحركة والتغيير. ولن ينجح أي وزير ووزارته مسؤولة عن كل ما يتعلق بالصحة، التخطيط، بناء المرافق، تشغيلها، صيانتها، توظيف الكوادر واستقطابها، متابعة المشاريع، تأمين الدواء، الإشراف على القطاع الصحي الخاص، التدريب والتطوير، والكثير من المسؤوليات الأخرى. ويصعب جدا أن يتحقق نجاح في غياب رؤية محددة واضحة واستراتيجية علمية عملية لتحقيق أهداف مدروسة بعناية تلبي الاحتياجات الحقيقية. كل ما كان يحدث وضع خطط وليست استراتيجيات تتغير مع كل وزير جديد دون البناء على المفيد منها، لنعود كل مرة إلى المربع الأول.
ما تحتاجه وزارة الصحة الآن نقضها وإعادة بنائها وهيكلتها من جديد لتقوم بمهمة محددة واضحة تتماشى مع الفكر الصحي الحديث والإدارة الصحية المتبعة في الدول الناجحة. وتخليص الوزارة من بعض الأعباء والمسؤوليات الحالية مطلب ضروري لنهوضها من عثراتها المستمرة. يستحيل أن تعجز العقول والكفاءات التي يزخر بها الوطن في تحويل الوزارة من الفشل إلى النجاح إذا أتيحت لها المرونة والاستقلالية في اتخاذ القرار ودعمه، وإزاحة عوائق الأنظمة المترهلة التي تقف ضد الإنجاز. وربما حان الآن وقت إشراك كل الجهات ذات العلاقة للبدء سريعا في تحويل هذه المقبرة إلى عنوان للحياة.