-A +A
قراءة: د. كامل فرحان صالح *
يمكن للقارئ أن يستشف زمان رواية «براري الحمى» لإبراهيم نصر الله ببدايات الثمانينيات الميلادية، وذلك إثر ورود سطر عن خبر في جريدة يشير فيها بطل الرواية الأستاذ محمد إلى الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان (ص58)، والمعروف أن ذلك حدث في يونيو من عام 1982م، كذلك من خلال ذكر شق الطريق إلى المنطقة من خلال الشركة الإيطالية (ص 103، 110، 111).تدور أحداث «براري الحمى» في الصحراء، تحديدا في القنفذة في سبت شمران، وحيث «الجهات كلها تدل إلى ثُريبان» ص 139، في «ظل المكان المقيد» 136. و«السيول تداهم الكائنات وسفوح الجبال» 131، فيما البيوت نوافذها عالية دائما «كنوافذ السجن» 138، و«البر الواسع الضيق المتخم بالنفط والسل» 131. فلا «مكان هنا لغير الحمى» 138.
والبحر بعيد 10.


فالقنفذة وحدها كانت بجبالها الجرداء، وجلدها الحجري المتشقق تستلقي جثة متفسخة، أغارت عليها الذئاب والثعالب والضباع ونهشتها الأفاعي والليالي القاسية(13). هي القنفذة اذن. مدينة بلا بحر والماء ملؤها/ مدينة بلا أرض. والرمل يغطي كل كائناتها(49). أما سبت شمران فحجارتها موزعة بين تلّين من الصخور السوداء... موزعة في حجارة تلمع كالسكاكين، تخترق صدور العصافير وزرقة السماء وقرص الشمس الباحث عن الظل بين البيوت
إنها رواية مكان يجثم على الزمن والأحداث والشخصيات، فتتبعثر الحكاية، لينتقل أولها إلى منتصفها، وآخرها يحل بداية... وهكذا، تتنقل الدوائر قصصا صغيرة سريعة، يجمعها بطل بنفس منشطرة وبظل ضائع وهلوسات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.
المكان يسيطر على أشخاص غائبين في الحمى، فالشخصيات بين «طعنة الحمى وهوة الهذيان»، وكما جاء في صفحة 49: «نحن هنا غير موجودين»، وفي صفحة 137: كلنا جنس واحد في هذه الصحراء.. تختفي الأنوثة والرجولة.
إنها رواية مكان، رواية تتبخر فيها الحالة الإنسانية في مساراتها العادية؛ فلا طموح ولا تطور ولا أحلام سوية، المكان هو الحاضر بثقله كله، فارضًا قرار الموت والغياب على الإنسان والنبات والحيوان والأشياء؛ فالإنسان يقبع في اطارات ضيقة لا يقدر سوى على ابراز غرائز بدائية تنتفي فيها السلوكيات الحضارية، وهذا ما يظهر اشتعال غريزة الاعتداء الجسدي والروحي واللفظي، فيما النبات لا يجد نافذة للعيش في الرمل، وما هذا العجز عن الحياة سوى حالة يتماهى فيها كل شيء؛ فـ «كأن البحر هنا، ولا يوجد ماء... كأن الرمل هنا ولا توجد أرض» 53.
ويعبر البطل عن ذلك بقوله: يلزمنا روح طليقة، يلزمنا أن نكون موجودين فعلا في الأماكن التي نسكنها، ونحن غير موجودين، في أماكن ليست موجودة على الاطلاق (49). أما الأشياء فتغوص وتتهاوى وتتحول إلى كثبان رمل.
الحمى
علميًّا عندما يدخل الجسد في الحرارة المرتفعة نتيجة مرض ما يفقد المصاب السيطرة على كلماته إلى حد ما، فتخرج متشظية، مكسورة، ولا ترابط فيما بينها، فتجتمع عند حدود الخوف من الموت، وبالاحساس العابر أو الراسخ أن هذا الجسد لم يعد يمتلك القدرة على العودة إلى العافية والصحة.
هل هذا يعني أن شخصية الرواية المنشطرة إلى اثنين، مصابة بالحمى؟ أم أن المكان هو المصاب بذلك؟
المكان القنفذة ... طعنة كفيلة بأن تشطر الإنسان شطرين (60)، والأستاذ محمد القادم للتعليم في هذه الصحراء يصبح تلميذًا يبحث عن «أناه» التي خرجت منه بعد أن طرق خمسة أشخاص بابه طالبين منه التبرع لدفنه لأنه «مات» بعد الغروب تماما، ومذاك يتغير الضمير المتكلم «أنا» إلى المخاطب «أنت» ويصبح أحيانا «هو»، لا سيما عندما يقطع الرواية في صفحة 33 بعبارة «مشهد» وفي صفحة 35 بعبارة « ستارة»، فيلاحظ أن صيغة الضمير تتحول إلى «هو» و«أنت» و«أنا»، والضمائر الثلاثة تعود إلى شخص واحد. وهذا الأسلوب قلما استخدم في الأدب العربي والعالمي.
أمام شخصيات تعبر الرواية دون ملامح متكاملة وبناء درامي يصل إلى ذروته، تجيء شخصية أبي محمد التي تتقاطع مع شخصية الأستاذ محمد. فأبو محمد رجل طيب يقيم في هذه الوحشة (66) رجل ما أن تلمحه تحس بأن كل الأشياء الجميلة في داخلك تأوي إليه(73)، فلاح بجسد نحيل وبسنينه الستين يسعى لتحويل الرمل إلى تربة صالحة للزراعة أو لأن ينبت فيها ظلا (69) ويعاني من جشع أحمد لطفي.
هذا التقاطع بين أبي محمد والأستاذ محمد يتجلى في أكثر من مسار، وأبرز ما يجمعهما احساس كل منهما بالمكان، ففيما الأول يسعى لتحويل الرمل إلى أرض، يستسلم الآخر للرمل كليّا وبشكل مرض. ويمتد هذا إلى اللغة، حيث يجد القارئ هذه اللغة العالية بشاعريتها عند أبي محمد وكأن من يتكلم هو الأستاذ لا هو، يقول أبو محمد:
هذه الأرض تخذلني يا فاطمة.
تخذلني... /وتخون عرقي./ ومحراثي
تخون يديّ هاتين/ تخون حنيني للحياة / تخونني (72)
حمى الألوان
أمام هذه الحمى المبعثرة على مدى الرواية، تبدو الإشارة للألوان لافتة، وقد أصابتها الحمى أيضا، حيث توزعت على البشر ضمن ثلاث شرائح؛ فالأسود للعجائز والأصفر والبرتقالي للصبايا والأبيض للرجال. كما تبرز تربة المقابر الخضراء، والصخور وقمة الجبال باللون الأسود.
لكن اللافت كان التوظيف المتسع للون الـ«أبيض»، فرغم أنه لا يرد سوى 15 مرة تقريبا، إلا انه يعكس مرايا المكان المتفسخة والروح المتهشمة المتعبة والغرائز الوحشية، وكان ارتباطه كصفة بالأشياء والحيوانات دلالة على الموت والغياب والانهيارات المادة والروح
كل ما في يدي من مال يستعبدني (137)
تختزل هذه الجملة القصة كلها، فان يترك الإنسان بلده إلى بلد آخر بحثًا عن الرزق والعيش الكريم، يصطدم بعد الدخول في الهجرة بصراع نفسي حاد، حيث تتناثر منه ذكريات ما مضى بألم شاسع مع كل خطوة في العالم الجديد، فالإحساس بترك أمكنتنا الأولى التي امتلأت بها ذكرياتنا إلى أمكنة أخرى فارغة من تفاصيلنا تماما يتحول إلى شرخ قاس في الروح، ويصبح المرء أمام دربين: فقدان الروح أو امتلاك المادة.
شاعرية السرد
وصفت هذه الرواية بأنها من أبرز الروايات ذات الصبغة الحداثية، على حد قول د. سلمى الخضراء الجيوسي، وأنها رواية تدفع بكاتبها للانضمام إلى كتّاب ما بعد الحداثة في العالم العربي، كما ترى د. فدوى مالطي دوغلاس رئيسة قسم الدراسات الشرقية بجامعة انديانا. ونلمس في الرواية معرفة عميقة بأصول وتجليات الثقافة العربية والثقافة الغربية والتقاليد الأسلوبية في الأدب والشعر والسينما، إذ الناقد الإيطالي فليبو لا بورتا يعتبرها واحدة من الروايات الكفيلة باثارة دهشة القارئ بعيدا عن الاستهلاكي الذي يروج محمولا على نظرة ذات طابع استعماري، حيث نرى نصر الله يستخدم تقنية سردية موازية لذلك التمزق في الوعي والازدواجية التي تعيشها الشخصية الرئيسة الواقعة بين فكي الخلل المطلق وسؤال المصير ومغزى الحياة.
بالمقابل يلحظ الشاعر والروائي الإنجليزي جيرمي ريد أن ما نحصل عليه من خلال البحث يحمل الحدة الهلاسية لقصيدة نثرية، أو قصيدة غنائية متأججة لا تعدم السخرية الخاصة بمسرح العبث.
أمام تناقض النقاد في نسبة هذه الرواية للحداثة أو ما بعد الحداثة، فان مقاربتها تظهر مسألة خروجها عن كلاسيكية الرواية المتوارثة، بحيث ترتمي بكل ثقلها على مساحة من شاعرية السرد إذا صح التعبير، ولعلها كانت نصّا شعريا طويلا جرى التعامل معها لتفتح نوافذها على السرد، فتقف بين منطقتي الإبداع: الشعر والرواية، وتصبح لا شعرا ولا رواية بالمعنى التقليدي، إنما نصّا يحمل عنوانا تأنسن فيه المكان بحالة مرضية: براري الحمى.
يصعب على لغة سردية جافة مقاربة الصحراء، فهذا العالم الفائض بحضوره، بصمته القاتل، والشاسع بتأكيد غياب الحياة عن روحه وتفاصيله، تدفع المرء لأن يتحدى ذلك بالشعر، وربما هذا ما يفسر لنا بروز الشعر في الصحراء منذ آلاف السنين قبل أي فن أدبي آخر.
هل تمكن نصر الله من تقديم نص وفيّ لواقعه؟ سؤال تبدو الإجابة عليه مربكة، لذا، لأقل أن ما خطر في ذهني وأنا أطوي الصفحة الأخيرة من الرواية: هل إذا غيّرنا أسماء الأماكن سيؤثر ذلك على بنية الرواية؟ وأجبت بشيء من الاقتناع: لا، فهذه الرواية تتوسل روح «المكان المريض» أو «اليباب» كما توسل ذلك أكثر من شاعر وروائي غربي وعربي في نصوصهم، حيث لا تبدو أسماء الأماكن ذات قيمة، إنما قيمتها بما تسيله من لغة شاعرية أو سردية، تضيء في نفس قارئها أسئلة عن الحياة والوجود والحب والكره والموت، أسئلة تمسّ الذات البشرية القلقة باستمرار مهما كان المكان الذي تقف عليه صلبا أو لزجا.
* الرواية صدرت سنة 1985 عن دار الشروق وأعيد نشرها في ثلاث طبعات عربية فيما صدرت حديثا بترجمة دانماركية عن دار أندرسكوفن ترجمتها ماريان مادلونغ، وكانت صدرت بترجمة انكليزية عن دار انترلينك في نيويورك وترجمة ايطاليه أصدرتها دار ايليسو.
*ورقة ألقيت في نادي جدة الأدبي ضمن ملتقى جماعة حوار في 7/ 11/ 2006م