-A +A
حوار: بدر الغانمي

لم أشأ أن أفسد على الشيخ أحمد زيدان أول وكيل لوزارة المواصلات السعودية تسلسل ذاكرة قرن من الزمان.. فقد وجدت في حديثه معي استرسالا وميلا لرصد مرحلة التأسيس التي كان شاهدها الرئيسي وأحد صناعها.. حاولت أن أخرجه من مسار الغلو في التفاصيل فأعادني مرغما إلى دائرة التخصص المحض.. الرجل الذي اعتبره البدو مخاويا للشياطين وظل موضع شك وريبة لم يترك للأحداث أن تسير حياته فقد اتخذ قراراته بقناعة. فعندما وصفوه بالموظف النكد ترك الرياض وعاد إلى مكة، وعندما شككوا في أمانته قدم استقالته إلى غير رجعة وحكمت علاقاته مع الآخرين مسافة ثابتة، لكنه ظل يحظى بثقة الملك المؤسس وأبنائه من بعده حتى غادر الوزارة من بابها الواسع، فيما دخلها الآخرون من الباب الضيق. زيدان تحدث عن مواقف وذكريات قد يراها الكثيرون مملة وتاريخية محضة فيما أراها إضاءة لم تحدث من قبل لتجربة رائد استحق أن يطلق اسمه على أحد شوارع مدينة جدة عرفانا لدوره وعطائه.. الرجل الذي يطرق بوابة المائة بعد ستة أشهر من الآن انطلق متحدثا عن آخر سنوات حكم الأشراف ودخول الملك عبدالعزيز إلى الحجاز.

ولدت في حي المسفلة في مكة، عام 1332هـ. لم أهنأ كثيرا بالتعرف على والدي الذي انتقل إلى رحمة الله ولم أتجاوز الرابعة من العمر، فأدخلتني والدتي بدعم من جدتي في الكتاب الذي يقع بجانب قهوة يقال لها (الحمرة)، لأدرس على يد الفقي من خلال الألواح، ثم دخلت بالتتابع جميع مدارس مكة آنذاك بدءا من دار الفائزين ثم المدرسة الفخرية الأهلية والدراسة فيها لخمس سنوات تعادل شهادة الكفاءة المتوسطة مرورا إلى مدرسة الفلاح، لكن مناهج الدراسة فيها لم تناسبني عندما أرجعوني إلى الوراء لدراسة تاريخ كنت قد درسته فتركتها وعدت إلى المدرسة الفخرية ومنها إلى مدرسة الخياط الخاصة في المسعى، وفي تلك الفترة جاءتني منحة من مصر التي كانت رائدة العالم العربي قبل عبدالناصر وتم ترشيحي لتفوقي في الابتدائي، لكن والدتي رفضت أن أسافر لوحدي وأصرت على سفرها معي فلم أذهب، ومن طريف ما حدث أن الذين سافروا لهذه المنحة عادوا إلى المملكة ليعينوا في درجة أقل مني في السلم الوظيفي.

لا أنسى الخوف الذي غلب رغبة والدتي فلم تسمح لي بإكمال تعليمي عندما انتهيت من الابتدائية، رغم الفرصة المتاحة للالتحاق بمدرسة القلعة الراقية التي أنشأها الشريف حسين آنذاك والتي درس فيها أخي من والدي (حسن) لوجودها في أعلى الجبل. عانيت عندما توفي والدي من مطالبات إخوتي رحمهم الله بضرورة التحاقي بهم. في تلك الفترة دخل الملك عبدالعزيز إلى الحجاز فأغلقت كل المدارس لعدم وجود جهة إشرافية عليها، فتطوع الشيخ مصطفى يغمور مدير مدارس الراقية بفتح مدرسة تفتح فصولها في كل يوم خميس فقط خاصة مقابل خمسة قروش لكل طالب في الشهر لكنها لم تستمر فعدت لمدرسة المعلاة وفيها تعلمت الإنجليزية عندما أحضروا أستاذا هنديا للتدريس في مدرسة الفلاح فأعطانا مبادئ للإنجليزية وجدت فيها مفتاحا لمزيد من التعلم، فاهتممت بجهد ذاتي مني بالبحث عن الجرائد والمجلات الموجود فيها موضوعات بالإنجليزية فقمت بترجمتها وإعادة كتابتها بالعربية. والدة زوجتي أم فيصل كانت تحفزني على النجاح في المدرسة وتقول لي انجح وأزوجك بنتي وظل هذا الموضوع في بالي إلى أن انتهيت من الدراسة في السادسة عشرة من العمر، وكان عمر زوجتي 14 سنة ودفع المهر العم محمود محمد حسين رحمه الله الوصي علينا بعد وفاة الوالد وكان نحو 20 جنيها.



• لماذا لم تلتحق بمدرسة تحضير البعثات التي كانت مقصد جميع طلاب المملكة؟

ــ رشحت لها بعد بدء العام الدراسي من قبل بعض أساتذتي فاشترطوا علي النجاح في اختبار القبول الذي تضمن شرط حفظ القرآن فاجتهدت في حفظ نصف القرآن وتقدمت للاختبار ونجحت، لكن مدير المدرسة كان أجنبيا فاقترح أن أدخل مع بداية السنة الجديدة مع الطلاب الجدد فعدت للدراسة في المعلاة وكان من زملائي الشيخ أحمد السباعي رحمه الله وبعد النجاح كان خريج الابتدائية يعين مدرسا وكدت أن أذهب معلما لكن الإعلان عن افتتاح معهد للاسلكي في جدة غير خارطة حياتي وتم قبول اثنين من زملائي فقررنا إقامة حفلة توديع لهما لبعد جدة ومشقة السفر لها في تلك الفترة، وبدأت الرغبة تتحرك في نفسي ليلة الوداع عندما وجدت مجلة اللطائف المصورة وفيها صورة لماركوني وهو يفتح خط الاتصال مع مدينة سيدني الأسترالية من باخرته بضغطة زر فأعجبت بشكله وهو مرتد للبنطلون والنظارات فأبديت رغبتي للشيخ محمد بياري رحمه الله فقدمني إلى الشيخ عبدالله كاظم مدير عام البرق والبريد والهاتف آنذاك والتي كانت عبارة عن مكتب صغير عند باب الوداع، فطلب مني الحضور صباح اليوم التالي فذهبت لأخبر أخي حسن برغبتي في السفر إلى جدة فأخبرني بأن الوالد رحمه الله أوصاه بأن لا يعمل أحد منا في القطاع العام. وجدت نفسي أمام رغبة جامحة فلم أستجب لكلامه وقررت السفر رغم غضبه، فكان الطريق الصعب الذي خضته وعشته وتفاعلت معه حتى أصبحت وكيلا لوزارة المواصلات، والطريف أن أخي حسن التحق بي كأمين صندوق في مديرية البرق والبريد بعد فترة.

• لم تكن الطريق معبدة إلى جدة؟

ــ كنا نسافر إلى جدة في سيارات البريد على مدى ست إلى سبع ساعات تقريبا ونسير في طريق رملي. أتذكر أول طريق تم إنشاؤه من قبل التكية المصرية حيث وضعت الصخور على المناطق الأقل رملية لتسير عليها السيارات.

• ما نوعية الأجهزة المستخدمة ذلك الوقت؟

ــ جئت لجدة والتقيت بهاشم برادة مدير لاسلكي المدينة المنورة وحسين عباس رحمه الله ومدير المدرسة فخري أفندي في محطة لاسلكي القشلة، وبدأنا نأخذ الدروس الأولى على جهاز سبارك وهو جهاز ألماني طالبت الأمم المتحدة بإيقاف التعامل معه بعد فترة لأن عرض ذبذبة الجهاز من 500 إلى 700 نقطة يحدث تشويشا على أجهزة أخرى فتقرر أن نستعمل محطة ثانية. وكان ممنوعا في ذلك الوقت دخول غرفة المخابرة لأن الجهاز يحدث شرارة، فتم تغييره بعد فترة إلى جهاز مورس الذي برزت فيه قدراتي وتعلمت الإشارات بسرعة ولم أخطئ فيها وكنا نتعلمها بالأحرف التركية، وكان السيد محسون حسين مدير لاسلكي جدة يكتب (المعزم) وليس (المعظم) لعدم وجود ظاء فقمت بتصحيحها على جهاز مورس مما زاد من شهرتي.

• بمعنى أن علاقتك باللاسلكي بدأت من بوابة الهواية؟

ــ أول من بدأ هواية اللاسلكي في المملكة الهاوي الإنجليزي Ken Eles عام 1947، والذي كان نداه HZ1KE، وفي نفس العام 1947 أيضا، تأسس نادي الهواة لبعثة التدريب العسكرية الأمريكية وشركة كاتوك قبل أن تصبح أرامكو في مطار الظهران، وكانت إشارة النداء HZ1AB. ثم بدأت عام 1948 ومازلت محتفظا بإشارتي HZ1HZ كهاو ولدي تصريح رسمي بذلك.

• يقال إنك تواصلت مع الملك حسين؟

ــ كان رحمه الله، من أبرز المهتمين بهذه الهواية وكان يتخذ من اسم (هاشم) لقبا له لإخفاء شخصيته عند الاتصالات. والاتصالات تتم بطريقة من أنت وكيف الجو عندكم وليس أكثر من ذلك.

• وهل إعجابك بماركوني كان دافعا لاقتراح الاستعانة بأجهزته؟

ــ لا.. عبدالله فيلبي هو من اقترح على الملك عبدالعزيز اللاسلكي الجديد (الشنطة اللاسلكية الملكية) بالتعاقد مع شركة ماركوني ، وطرحت الفكرة لسهولة حمل الأجهزة مع الملك وكبار الشخصيات ومرافقيه أثناء ترحالهم. كما اقترح فيلبي على الملك عبدالعزيز جلب خبراء لتشغيل البرقيات من الخارج، لكن الملك قال له: بل نرسل من أبناء البلاد من يتعلم هذه المهنة لدى شركة ماركوني في إنجلترا مع أن الشركة أرسلت لنا المهندس إبراهيم التركي لتدريبنا، وتم بالفعل ابتعاث ثلاثة موظفين هم: محسون حسين أفندي، وإبراهيم زارع، وإبراهيم سلسلة، ثم تم إرسالي أنا أيضا وعندما عدت تم تعييني مديرا للشنطة اللاسلكية الملكية براتب 1000 قرش وكنت أتنقل مع الملك عبدالعزيز في جولاته على القرى ومناطق القنص. ولم تكن الرواتب تصرف شهريا لكن تم تجاوز ذلك لأن الأرزاق كانت تصرف لنا مجانا على حساب الملك. ولا أنسى كرم الشيخ صالح الشلهوب ووالده محمد الذي كان مسؤولا عن مالية الملك رحمهم الله فقد استوصوا بنا خيرا باستضافتنا دائما في منزلهم.

• هل صحيح أنك هربت من تعيين الطائف فصرت في الرياض؟

ــ الخيار كان مطروحا أمامي. فقد قال لي المدير العام: اختار إما الرياض أو الطائف، لكن نصيحة أحد الموظفين القدماء بعدم ذهابي إلى الطائف لوجود فخري أفندي رحمه الله فيها وكان شخصا حادا دفعتني للذهاب إلى الرياض وشجعني وجود محسون حسين فيها وكان راتب الوظيفة 900 قرش أميري مع العلم أن الريال كان يساوي 11 قرشا. فذهبت للرياض في السيارات الجديدة برفقة أحمد فراش ومحمد فالح من الطائف وأخذ منا الطريق ستة أيام، وكنا نضطر للبحث عن أماكن وجود المياه لنبرد السيارة طوال الطريق.

• وصلتم الرياض ولم يكن مرحبا بكم؟

ــ فوجئنا بوضع اللاسلكي في حوش لأحد سائقي الملك عبدالعزيز خوفا علينا من المشايخ المعترضين في تلك الفترة، وتم إسكاننا في قصر أحد الأمراء ووضعت لنا حراسة خاصة وفي اليوم الثاني تغدينا مع الملك عبدالعزيز فقال لنا: لا تلتفتوا لما تسمعون وترون. اعملوا عملكم. وقد تم التغلب على معارضتهم لاستعمال الهاتف بأن دعوا إلى استعماله بأنفسهم وتركوا ليستمعوا إلى قراءة من القرآن الكريم بصوت مألوف لصديق ليس موجودا أمام أعينهم. والأعجب من هذا أن أحد المسؤولين استضافنا في بيته، وبعد الغداء استحلفنا بالله إن كان الشياطين جزءا من شغلنا وأننا نخاويهم، خصوصا أن الناس يقولون إن الدخان اللي يخرج من مولد الكهرباء يخرج الشياطين فأخبرناه بالفكرة علميا فاقتنع.

• كيف واجهتم هذا الواقع؟

ــ كان هذا دور الملك عبدالعزيز رحمه الله، فقد مكث يجاهد ويجالد في سبيل التليفون والتلغراف اللاسلكي جهادا جادا، مرة مع الإخوان، وآونة أخرى مع بعض العلماء نحو عشر سنوات، فقد تعرض بعض العاملين في المحطات لمساءلة واستجواب دائم من بعض المشايخ الذيت ترددوا عليهم من وقت لآخر لسؤالهم عن موعد زيارة الشياطين. وأين الشيطان الكبير؟ وكم عدد أولاده الذين يساعدونه في مهمة نقل الأخبار، وقد أنكر رئيس القضاة الشيخ عبدالله بن حسن استخدام البرق، لأنه كان يتوهم أن يستعان في تشغيله بالشياطين، حتى أقنعه حافظ وهبة بأنه مجرد صناعة، واستخدمه أمام الشيخ بن حسن فاقتنع بذلك. وفي الرياض.. تأخر جهاز اللاسلكي، حيث وقف علماء الرياض منه موقفا مماثلا. ثم اقتنعوا بأنه مجرد صناعة. وكانوا يشككون في أنه يستخدم بواسطة الشياطين. لكن زاد الموقف في ما بعد حسب ما سمعت أي حوالي عام 1345هـ عندما بدأ الإخوان البدو، ينكرون التقنيات الحديثة، فأنكروا استخدام السيارة واللاسلكي والتليفون وحتى الساعة الوقتية، لكن العلماء أفتوا بأن تلك التقنيات هي مجرد صناعة.

• كيف تعاملتم مع المشاكل التجسسية؟

ــ لم يكن بالإمكان التجسس على أحد، كما أن الأعمال تتم عن طريق البرقيات في ساعات معينة من الليل، حيث يمكن التقاط البث بشكل أقوى.

• كنت تطلع على كل شيء؟

ــ كل شيء كان بالشفرة وإن كانت بسيطة مثل (12 أ) أو (13 ب) وهكذا.

• ورسائل الملك إلى قيادات الدول؟

ــ ترسل إلى الخارجية في جدة.

• الغريب أن أقوى محطاتكم كانت الجوف البعيدة عن الحدث؟

ــ المحطات موجودة في مكة وجدة والوجه وينبع والمدينة المنورة وكلها تتصل بإسطنبول في أوقات معينة من الليل وتميزت محطة الوجه بقوة موجاتها وكان صوتها مسموعا بشكل جيد في إسطنبول.

• الكل استغرب في تلك الفترة استقالتك المفاجئة من العمل دون إبداء أسباب؟

ــ كانت هناك أسباب قوية استدعتني لهذه الخطوة، مع أنني حظيت بثقة ولاة الأمر في عملي، فقد انتقلت إلى جدة في حرب اليمن بطلب من الملك عبدالعزيز لأتخابر مع أبها. وبعد ذلك أصبحت مندوبا دائما للمملكة في الاتحاد الدولي للتلغراف بديلا للمهندس الأجنبي الذي جاء به الأمير طلال وكان يمثلنا كمندوب دائم، وزد على ذلك عندما انتقلت إلى النيابة العامة لجلالة الملك مديرا لقسم المراقبة اللاسلكية فقد طلب الشيخ محمد سرور الصبان عودتي مرة أخرى وعينت مديرا عاما للبرق والبريد والهاتف بعد تقاعد الشيخ إبراهيم سلسلة، ونفذت فكرة مشروع الهاتف الأوتوماتيكي بالاتفاق مع الحكومة اليابانية، ولكن بعد نقلي قسم اللاسلكي في الغزة وجدت معاملة غير جيدة وصدر قرار بنقلي من مدير عام البرق والبريد إلى مستشار لوزير المواصلات بتهمة لفقت لي بأنني أنقل رسائل بين مسؤول وآخر، فأثر هذا الأمر في نفسي فقدمت استقالتي.

• كان بإمكانهم أن يفصلوك؟

ــ خافوا أن تحدث ضجة ولفت انتباه.

• قدمت الاستقالة لخصومك مباشرة؟

ــ لا.. الاستقالات كانت ترسل لوزير المالية الذي يرسلها بدوره للأمير فيصل ليقرر فيها فاستدعيت لمقابلة الملك فيصل في قصر شبرا في الطائف، وعندما ذهبت قابلت الشيخ عبدالله كامل رحمه الله وكان رئيس ديوان المخابرات فدلني على مكتب الأمير فيصل فدخلت ووجدت الأمير عبدالله بن عبدالرحمن الذي عرفني، فألح علي الملك فيصل عن أسباب استقالتي فأخبرته بأنني واقف على درجات سلم لا يمكن لي أن أرتقيه إلا إذا مات من قبلي، فضحك وقال لي: مارأيك تأتي عندنا في النيابة وتقوم بنفس شغلك ونعطيك أحسن من راتبك فقبلت. وفي تلك الفترة صدرت الميزانية فجاءت زيادات في الرواتب لكل من ذهبوا للتدريب في الخارج قبلي ولم يمارسوا العمل بمثل خبرتي، فأثر ذلك في نفسي فعلم الملك بذلك وتحدث مع إبراهيم السليمان فنقلني براتب أفضل من رواتبهم، وقال لي: اختار الموظفين والأجهزة التي تريدها. وكان من ضمن من اخترتهم للعمل معي الشاعر إبراهيم خفاجي.

• كنت سيئ الحظ رغم تميزك في عملك؟

ــ ليس إلى هذه الدرجة ولكن حدث في أول خروج مع الملك عبدالعزيز إلى البر أن تعطل الجهاز الجديد الذي كان برفقة زميلي صالح الصويغ وكان مدير اللاسلكي مسؤولا عن الجهاز، فعندما رجعوا مرة ثانية إلى البر، قال المدير للملك: ما يصلح يروح معنا إلا أحمد زيدان ولم يكن الملك يتحرك إلى مخيام البر إلا بذهاب الشنطة وكان رئيس الديوان عبدالرحمن العثمان رحمه الله يتولى الرسائل كما يتولى الشيخ محمد الدغيثر البرقيات، وفي أول ليلة ذهب الملك إلى منطقة تسمى الخفس وفي صباح اليوم الثاني جاءني الدغيثر فقال: خلاص نمشي، فأخبرته بتعطل الجهاز ولابد أن نرسل إلى الرياض ليأتينا المهندس التركي الموجود هناك لإصلاح الجهاز وجلب الجهاز الآخر، فقال لي: لا أستطيع أنا أقول للملك بهذا الأمر مشافهة فاكتب هذا الكلام وسأعرضه على الملك عبدالعزيز فكتبت خطابا بذلك وعندما فوجئنا بقدوم موكب الملك إلى مكاننا فلما رآني قال لي: أنت اللي تخربها في كل مرة، فقلت له: هذه أول مرة أخرج فيها مع جلالتكم. فطلب مني أن أكتب برقية للرياض ليرسلوا المهندس والشنطة الثانية. فرجعت وظللت أفكر كيف أرسل للرياض والجهاز عطلان وكان يجلس معي بعض كبار رجال الدولة مثل الشيخ يوسف ياسين وهم يتساءلون عن سبب غضب الملك فأمسكت بالجهاز ودفعته على الأرض وقلت لهم بسبب هذا الجهاز، ويبدو أن حركتي أتت بمفعولها واشتغل الجهاز. موقف آخر حدث في السنة الثانية عندما طلب الملك سيارة اللاسلكي فكان الدغيثر يمازحني عندما قلت له إنني ذاهب لأتزوج بقوله: إن الملك قال لا تجيبوا الوجه النكد وكان يقصدني. ومن سوء حظه أن السيارة التي طلبها الملك تعطلت فقلت له إنني ذاهب ولن أرجع وتم نقلي إلى مأمور لاسلكي في مكة المكرمة ونزل راتبي إلى سبعمائة قرش.

• لم تكن هناك بنوك؟

ــ البنك الهولندي فقط.

• كم كنت تصرف من السبعمائة قرش في تلك الفترة؟

ــ استأجرت بها بيتا في المعابدة وصرفت منها على زوجتي وطفلتي الأولى ومعي خادمة تخدم في النهار وتذهب في الليل، أما الأكل والشرب فكان يأتينا من قصر الملك.

• والطبخ في البيوت؟

ــ نعمل الطحين أقراصا ونرسله للفرن، ولم يكن هناك أي مطابخ في الخارج عدا بائع شربة البقر آنذاك.

• لكنك أصبحت ثريا بانتقالك إلى الشرقية؟

ــ فعلا.. بنيت فيلتين من راتبي المغري الذي تقاضيته عندما تم نقلي مديرا للبريد واللاسلكي في الهفوف، حيث كنت أتقاضى 1500 قرش شهريا وبعد سنة ارتفع إلى ألفي قرش عندما انتقلت إلى الخبر مديرا للبرق والبريد وتمكنت فيها من إنشاء أول مرسلة لاسلكية خاصة بي.

• البعض قال إنك مزاجي فقد تركت كل هذا التألق وذهبت في رحلة طويلة إلى العراق.. لماذا؟

ــ بالغت كثيرا.. ولو جاءتك نفس الفرصة فلن تضيعها فقد جاءتني منحة لدراسة الأرصاد الجوية من وزارة الطيران البريطانية لتكون نواة لهم في المملكة التي لم تكن منضمة لدائرة التنبؤ بالأحوال الجوية، ولم يكن بمقدور الطائرات السير لمسافات طويلة فسافرت من جدة إلى القاهرة إلى مطار اللد ونزلت في القدس التي زرتها كثيرا وصليت في المسجد الأقصى قبل انتهاء الانتداب البريطاني وكانت فقيرة لدرجة أن العلماء كانوا يقفون على باب المسجد ويطلبون الزوار. ثم أكملت طريقي إلى البصرة ثم بغداد برا فالتحقت بالمعهد البريطاني وجرى تدريبي في المعهد الذي يقع في مطار الحبانية وبعد انتهائي من الدراسة جرى ابتعاثي إلى إنجلترا للدراسة اللاسلكية وتعرفت في أسكوتلندا على محطات الموجة القصيرة بعد ظهوره كفن جديد وأغرمت بها كثيرا.

• لدرجة أن علاقتك بالملك فيصل بدأت من خلالها؟

ــ يبدو أنك مذاكر كويس.. فعلا، مع بدء الموجة القصيرة تطورت الخدمة بشكل عجيب وكنا نتصل بجميع المحطات. وكنت أعمل على موجة اللاسلكي حيث حصل بيني وبين الملك فيصل عندما كان نائب الملك على الحجاز اتصال سألني فيه عن أسباب عدم إرسال أمير الوجه أو ضباء برقية من القاضي بشأن رؤية الهلال. فسألته: من أنت؟ فرد علي المأمور بأنه طويل العمر.

• كنتم مسؤولين عن الإبلاغ برؤيا الهلال؟

ــ لعدم وجود إذاعة آنذاك فقد كانت الإشارة تأتي إلى الرياض ثم ترسل إلى مكة المكرمة لنائب الملك حيث يعرض على الهيئة ثم تعلن رؤية الهلال لمدن الحجاز، كما لم يكن التلغراف مستعملا كثيرا.

• لماذا لم تستفيدوا من أجهزة كبار التجار في الحجاز؟

ــ لم يكن يسمح لهم باقتناء الأجهزة اللاسلكية لسرية المعلومات.

• لم تستفيدوا من إذاعة طامي؟

ــ المسألة أخذت وقتا، فإذاعة طامي لم تكن موجودة وقدرتها عندما بدأت محدودة في منطقة الرياض، وعندما بدأ البث الإذاعي لم تكن قدرة أكبر جهاز تتجاوز 5 إلى 6 كيلوات تقريبا.

• ما هو أبرز ما تحقق من تطور بعد إدخال هذه الأجهزة؟

ــ تكفي استفادتنا منها في معارك الجنوب خصوصا عندما تم قمع الفتنة ووصلتنا برقية ابن هليل بذلك فأخبرنا الملك في مكة عن طريق محطة الطائف وأتذكر أن أحد الموظفين أخذ الرسالة وقال: سأسلمها للأمير سعود. وكان وليا للعهد آنذاك بشرط يعطيني هدية وفعلا أعطاه حصانا. كما لا أنسى أننا نقلنا خبر مقتل الإمام يحيى للملك عبدالعزيز عندما كنا نسمع حديثا بين بعض المأمورين في اليمن بأن الإمام يحيى قتل، ثم جاءت بعدها برقية من السلال تفيد بوفاة الملك يحيى وتعيين ابنه الإمام البدر مكانه.

• ما هي قصة حضورك حفلة أم كلثوم؟

ــ عندما كنت في النيابة قال لي الشيخ إبراهيم السليمان إن الأمير فيصل لديه رسالة يريدك أن توصلها للسفير عبدالله الفضل في القاهرة، فطلبت منه أن يسمحوا لي بحضور حفلة أم كلثوم، وكانت تقام مرة في الشهر ولم تكن هناك سوى طائرة مصرية وحيدة تقوم برحلتين فقط بين جدة والقاهرة أسبوعيا، فقال لي: روح كلم الأمير فيصل، فلما أخبرته برغبتي سألني: ماذا تحفظ من أغانيها، فقلت له سمعت صوتا خاليا في السحر فضحك، وقال لي روح لإبراهيم السليمان وخليه يسوي لك جواز سفر وتأشيرة، ووقتها كان الشيخ يوسف ياسين مسؤولا عن الخارجية، فسافرت في نفس اليوم ووجدت من يستقبلني من السفارة وقد حجزوا لي مقعدا في حفلة أم كلثوم.

• يستغرب البعض حرصك على الحضور الدائم في مناسبات «عكـاظ» رغم تقدمك في العمر ومشاكلك الصحية؟

ــ «عكاظ» جزء مني، فأنا أول عضو مؤسس فيها، وعندما صدر قرار تحويل المؤسسات الصحافية من الأفراد إلى شركات مساهمة كلمني أحمد عبدالغفور عطار لأكون عضوا وقال لي: هذه المسألة تتطلب استجوابات أمنية فاعتذرت له، فقال لي: قل للملك فيصل هذا الكلام لأنه هو الذي رشحك فدخلت في مجلس الإدارة وكانت قيمة السهم ستة ريالات تقريبا، أما الآن فقيمته بالآلاف ولله الحمد.

• كيف تراها الآن؟

ــ جيدة مع الأخ محمد التونسي وقد ورث تركة كبيرة بعد الدكتور هاشم الذي أحيا الجريدة فأصبحت الأولى.

• من تخشى عليها؟

ــ لا أرى لها منافسا في الساحة، وإن كانت صحيفة الرياض تبدو كذلك.

• بصراحة.. ما الذي يهمك كعضو مؤسس حاليا؟

ــ تطور التحرير في الجريدة.

• هل لديك كمستثمر تخوف من مستقبل الصحافة الورقية في ظل ثورة الإنترنت؟

ــ «عكاظ» وجبتي الأولى كل صباح وسيظل للإعلام الورقي صوته المسموع.

• لماذا لم نرك في أي منصب بعد التقاعد منذ أكثر من 30 سنة؟

ــ أحب دائما أن يكون بيني وبين الناس مسافة. صحيح أنني حريص على التواصل الشخصي ولكنني أعلم جيدا أن هناك فارقا بين موقعي كمسؤول في السابق ومتقاعد حاليا. ولعلمك فأنا لم أستفد من منصبي قط، ولم أقدم على منحة في حياتي رغم أن الشيخ النويصر رحمه الله يحثني على ذلك، وأعتقد أن الإنسان مادام مستورا فلا يقدم على هذه الخطوة.

• كنت تتضايق من نقد الإعلام؟

ــ بل على العكس كنت أقوم بالرد على ما ينشر من باب شفافية العلاقة مع الإعلام وليس عبر إدارات للعلاقات العامة.

• يقال إنك كنت تصرف أكثر وقتك في المؤتمرات؟

ــ لا أدعي لنفسي النجاح، لكنني عملت جهدي حسب الإمكانيات الموجودة.

• هل هذا سبب لعدم تكريمك؟

ــ الموظفون عملوا لي حفلة خارج الرياض في البر.

• والوزير الجديد؟

ــ علوي درويش كيال استلم وزارة البرق والبريد والهاتف في أول إنشاء لها بعد أن كنت وكيل وزارة المواصلات للبرق والبريد ولم يفعل شيئا.

• من بقي من زملاء دراستك؟

ــ لم يبق أحد وأسأل الله حسن الخاتمة.