تابعوا عكاظ على
Google News Account
هذا عنوان لدراسةٍ قام بها الباحث الأستاذ مهند بن عبد اللطيف الجعفري، وهي دراسة قد تكون الأولى حول آراء الإمام أبي بكر بن العربي التربوية، أكمل بها الباحث متطلَّبات درجة الماجستير في التربية من قسم التربية بكليَّة العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وتَمَّت مناقشتها في 1428/4/29هـ . لقد كان الدافع في اختيار هذا الموضوع أنه لا يخلو كتابٌ مِن كتب ابن العربي من نُكَتٍ وفوائد تعليمية رائدة، ومن لفتاتٍ تربويَّة بديعة، تحتاج إلى من يَسبر غورها، لِيُميط عنها اللثام، ويكشف عن ما تحويه من طُرُقٍ رائدة في التعليم وفي التربية. فالأستاذ مهند يهدفُ من وراء هذا البحث إلى الوقوف على الآراء التربوية لابن العربي فيما يتعلَّق بالمعلِّم وكذلك المتعلِّم وفيما يتعلَّق بِحَلَقة الوصل بينهما وهي المنهج التعليمي والتربوي. وقد أدارَ الأستاذ مهند دراسته على سبعة فصول:
عرض في الفصل الأول مشكلة البحث وأهميته وحدوده.
وفي الفصل الثاني شرح الإطار النظري للبحث والدراسات السابقة له .
وفي الفصل الثالث تحدث عن سيرة الإمام ابن العربي، واستعرض بإيجاز رحلته الشهيرة التي قاربت عشر سنين، بدأها من إشبيليا إلى مالقا فغرناطة، ثم ركب البحر إلى بجاية بالجزائر ومنها إلى عنَّابة فتونس فسوسة فالمهدية، وركب منها البحر إلى الساحل الليبي، ومنها إلى مصر، ثم طاف ببلاد الشام كلها، فرحل إلى القدس وعسقلان وعكا وصور وصيدا ودمشق، ثم إلى بغداد والتقى بحجَّة الإسلام الغزالي، وفي كل مدينةٍ يَدخلها كان يقيمُ أياماً، وربما شهوراً، لا يسمع بعالم في فنٍّ من الفنون إلا ويقصدُ دَرْسه وينهل من معينه .
ثم ينتقل الباحث إلى صلب الموضوع بالحديث عن العالم والمتعلم والمنهج عند الإمام ابن العربي في الفصول التالية .
وقد استقرأَ الأستاذ مهند كُتُبَ ابن العربي واستخرج منها دُرراً من الآراء والأفكار التربوية، ونثرها في هذه الفصول الثلاثة .
فأشار إلى أن الإمام ابن العربي ذكر أن للمتعلِّم على المعلِّم عشرة حقوق، ثم ذكر أمثلةً لها .
فمن تلك الآداب أن لا يخلو درس العالِم مِن ذِكر شيءٍ من الفوائد والنوادر التي تورث النشاط في الطالب وتُزيل عنه الملال، وهو ما نَلْحظه في كتابات الإمام ابن العربي كقوله أثناء حديثه عن العدل : ومن نوادر أبي الفضل الجوهري ما أخبرنا عنه محمد بن عبد الملك الواعظ وغيره أنّه كان يقول: إذا أَمْسَكْتَ علاَّقة الميزان بالإبهام والسبّابة، وارتَفَعَتْ سائرُ الأصابع، كان شكلُها مقرِّراً بقولك الله! فكأنّها إشارة منه سبحانه في تيسير الوزن كذلك إلى أن الله سبحانه مطّلع عليك، فاعدل في وزنك .
ومن ذلك: أنّه حكى دخوله بدمشق بيوت بعضهم، وأنّه رأى فيه النهر جائياً إلى موضع جلوسهم، ثم يعود من ناحية أخرى، قال :فلم أفهم معنى ذلك حتى جاءت موائدُ الطعام في النهر المقبل إلينا، فأخذها الخدم ووضعوها بين يدينا، فلما فرغنا ألقى الخدمُ الأوانيَ وما معها في النهر الراجع، فذهب بِها الماءُ إلى الناحية الأخرى ، فعلمتُ السِّر، وإن هذا لعجيب !
وفي حديثه عن المتعلِّم أشار الأستاذ مهند إلى تقسيم الإمام ابن العربي المتعلمين باعتبار غاياتهم وَجَوْدة أذهانهم إلى خمسة أقسام، فاستعرضها وبسط القول في كل قسمٍ منها .
ومن طريف ما نقله الباحث مما يتعلَّق بكلٍّ من المعلِّم والمتعلِّم، وذلك عن البراعة في السؤال وفي الجواب، قول الإمام ابن العربي : “كان بمدينة السلام إمام من الصوفية وأيُّ إمام، يُعرف بابن عطاء، فتكلّم يوماً على يوسف عليه السلام وأخباره، حتى ذكر تبرئته ممّا ينسب إليه من مكروه، فقام رجلٌ من آخر مجلسه، والمجلس مشحون بالخليقَةِ مِن كل طائفة فقال: يا شيخنا، فإذاً يوسفُ هَمَّ وما تَمَّ؟ فقال ابن عطاء: نعم، لأن العناية مِن ثمَّ”، قال ابن العربي: “فانظروا إلى حلاوة العالم والمتعلم وفطنة العامي في سؤاله، والعالم في اختصاره واستيفائه” .
وفي الحديث عن المنهج أشار الأستاذ مهند إلى كثير من آراء الإمام ابن العربي، وأشار إلى تعليق ابن خلدون على رأيه في تعليم الأطفال، حيث قال ابن خلدون: “ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي إلى طريقة غريبة في وجه التعليم، وقدَّم تعليم العربية و الشعر على سائر العلوم، قال: لأن الشعر ديوان العرب، ثم ينتقل منه إلى الحساب ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يَتَيَسَّرُ عليه بهذه المقدمة، قال ابن خلدون : وهو لعمري مذهب حسن، إلا أن العوائد لا تساعد عليه .
ثم ختم الأستاذ مهند بحثه بذكر ما خرج به من نتائج، وما يراه من توصيات .
وإنني إذ أشكر للباحث حسن اختياره لهذا الموضوع، فإنني أتذكَّر المثل العربي : العالِمُ كالحَمَّة-أي العين الحارَّة- يأتيها البُعَداءُ ويزهدُ فيها القُرَباء، ذلك أني وجدتُ عنايةً كبيرة من المستشرقين لتراثنا الإسلامي، ورأيتهم يعكفون على دراسة علمائنا، وتحليل كتاباتهم، واستخراج دُررٍ من الفوائد، وأيّاً كانت غاياتُهم، فإن مِن القُصور أن نجدَ زُهداً من باحثينا في كنوزنا التي دفنَّاها فَخَفِيَتْ علينا، وخسرنا الاستفادة منها .
ولقد قرأت بعض الكتابات التي تستنير بما كتبه علماء المسلمين، في علم التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرهم، فوجدتُ بعضها فيه جِدَّةً وابتكارا، ووجدت كثيرا منها لا يخلو من التَّكلُّف في حمْلِ النصوص على غير مُحتملاتها، بل ربَّما تحدَّث بعضُهم عن شخصية علمية وحلَّل كتاباتها استناداً إلى شُهرة صاحِبِها في الفقه أو الحديث مثلاً، وكأن الشهرة تعني أن هذه الشخصية لها آراء اجتماعية أو تربوية، فتكون النتيجة أبحاثاً متكلَّفة ومصنوعة، وربَّما غلب على كثير منها الإنشاء .
إن تاريخنا حافل بالمبدعين، ومنهم الذين كُتِبَ عنهم الكثير كالإمام الغزالي رحمه الله، ومنهم مَن لا تزال كتاباتهم على الأرفف، فعسى أن يلتفت التربويون والمختصون في علم الاجتماع والنفس إلى كتابات المبدعين من علمائنا، فإنهم سيجدون الكثير من الفوائد التي لا ينبغي أن تفوتهم .

* أستاذ الفقه بجامعة الملك فيصل بالأحساء
أخبار ذات صلة