-A +A
علي حسن التواتي
جمرك «الدميثة» هو البديل المعطل منذ استكمال بنائه عام 1999 لجمرك «طريف» التاريخي في منطقة الحدود الشمالية، الذي كان لردح من الزمن أهم منفذ بري سعودي شمالي قبل إغلاقه وتحويل حركة النقل البري لمنفذ الحديثة قرب القريات المصنفة ضمن المرجعية الإدارية لمنطقة إدارية مجاورة هي منطقة الجوف. ورغم استكمال بناء جمرك الدميثة في موقع لا يبعد كثيراً عن جمرك طريف القديم المجاور للمطار، إلا أن وزارة المالية قامت أيضاً بتنفيذ مشروع ترميم كبير في جمرك طريف واستمرت رغم ذلك في إغلاق المنشأتين، ما جعل السكان المطالبين بافتتاح منفذ وجمرك الدميثة في حيرة من أمرهم.

ولكن الحيرة تزول إذا ما عرفنا بأن ترميم مباني جمرك طريف القديم لا يعني إعادة افتتاحه كجمرك حدودي، فبناء جمرك جديد على منفذ الدميثة لا يتعارض مع ترميم مرافق الجمرك القديم المجاور للمطار، والذي يقع في منتصف المسافة تقريباً فيما بين منفذ الدميثة وجمركها، ومدينة الوعد الاقتصادية في أم وعال التي ستحتاج لاحقاً للمرافق في كلا الموقعين حينما يعود مطار طريف كسابق عهده مطاراً دولياً نتيجة لتزايد حركة المسافرين والبضائع والإمدادات في المدينة الاقتصادية الناشئة التي تخطت كونها مقراً لمرحلة من مراحل استخراج وتصنيع الفوسفات، إلى واحدة من أهم المدن الاقتصادية السعودية التي ستظهر قريباً على خريطة الاستثمارات العالمية المشتركة والمباشرة بعد وضع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بحضور ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في نوفمبر الماضي، حجر الأساس لمشاريع تتضمن إلى جانب الصناعات التعدينية التي تتجاوز الفوسفات إلى استخراج ومعالجة الحجر الجيري، والدولوميت، والبحص، إضافة إلى الرمل والتربة التي ستسهم بشكل كبير وفعال في مجال البناء وصناعات الخزف والسيراميك، والتي ما لبثت أن آتت أكلها عبر توقيع معادن لمذكرة تفاهم مع شركة وانج كانج الصينية لإنشاء مصنع للسيراميك عالي الجودة في «وعد الشمال»، بقيمة 100 مليون دولار كنواة لتوطين استثمارات صينية تستهدف دول الشمال العربي وتركيا وأوروبا ضمن مشروعها العملاق العابر للقارات «طريق الحرير والحزام»، مستفيدة من الحزمة التحفيزية التي تقدمها المملكة لتعزيز الاستدامة التنموية للاستثمار في مدينة الوعد، والتي تشمل التأجير طويل المدى للأراضي الصناعية الجاهزة وبأسعار تنافسية، وتسهيل الحصول على قروض تصل حتى 75% من تكلفة المشروع، والإعفاء الجمركي على التصنيع والمواد الخام وتوفير الكهرباء ومصادر الطاقة النظيفة.


وبالتالي، أكاد أرى منفذ الدميثة وجمركها مفتوحين لتعزيز هذه الاستدامة التنموية للمنطقة والصناعات المتوطنة فيها، لا مجرد منفذ إضافي يختصر «المسافات» بيننا وبين الأردن وسورية والعراق، رغم أن هذا العامل وحده يكفي كمبرر إستراتيجي لفتحه بسبب وقوعه في أقصى الشمال الشرقي من المملكة في مثلث الحدود السعودية الأردنية السعودية العراقية وانفتاحه على مدينة الأزرق الاقتصادية الأردنية والريشة والإجفور (إتش فور) على الجانب الآخر للحدود الأردنية، ومدينة الرطبة العراقية ومنها إلى باقي مدن الأنبار والشمال العراقي، وغير بعيد بل أقرب منفذ حدودي سعودي من الجنوب السوري ودمشق و«شرق سورية» وهو ما لا يتوفر لأي منفذ سعودي آخر.

ورغم كل هذه المسوغات الإستراتيجية لضرورة فتح منفذ الدميثة إلا أن هناك جانباً تنموياً تكاملياً مع «وعد الشمال» يجب ألا نغفل عنه ولا يغفل عنه «صندوق الاستثمارات العامة» الذي يستثمر في «وعد الشمال» باعتباره «الذراع الاستثمارية الرئيسة» للمملكة، والذي يمتلك نسباً من شركة «معادن» و«سابك» اللتين تملكان معا النسبة الكبرى من شركة «معادن وعد الشمال للفوسفات»، كما يمتلك الصندوق شركة «سار» التي ربطت «وعد الشمال» بالسكك الحديدية.

ويتمثل هذا الجانب الأهم الذي أعنيه وأدعو «صندوق الاستثمارات العامة» لتسريع الخطوات لتنفيذه، في العمل على الاستفادة من مرافق جمرك منفذ الدميثة الحالي كنواة للتكامل التنموي في المنطقة وعبر الحدود وذلك بإنشاء «منطقة استيداع» تمهيداً لتوسيعها فيما بعد لمنطقة «تجارة عالمية حرّة» متعددة الأغراض والنشاطات الاقتصادية والتعليمية لتجميع وتبادل مختلف البضائع والمنتجات الثقيلة والخفيفة القابلة للتصدير وإعادة التصدير، والتأجير عبر الحدود، من المملكة وإليها، والاستفادة من الخبرات التعليمية والتدريبية المتوفرة في الدول العربية الشمالية في توطين بعض التخصصات العلمية والفنية التي تحتاجها المملكة.

ويكون الغرض الأول والرئيسي من إنشاء هذه المنطقة الحرة هو توفير فرص وظيفية كافية لاستقطاب الكفاءات المحلية في نشاطات اقتصادية تتميز بالتنوع والاستقرار الوظيفي ومستوى الدخل المرتفع. والإسهام في الجهود المبذولة لتحويل منطقة الحدود الشمالية إلى منطقة جذب سكّاني لتعزيز مكانتها الإستراتيجية والإسهام في تسريع الهجرة العكسية من مراكز الاستقطاب السكّاني الكبرى مرّة أخرى باتجاه الأطراف، مما سينعكس بدوره انعكاساً مباشراً على تعزيز الأمن الوطني..

ويمكن أن تتكون المنطقة الحرة التي يمكن إنشاؤها مبدئياً من مرافق الميناء البري القائم حالياً، وإنشاء مركز لتجميع العربات والمعدات المجهزة للتأجير عبر الحدود، ومعرض إقليمي دائم لأحدث العدد والمكائن والسيارات الجديدة والمستعملة المعفاة من الرسوم الجمركية بغرض التصدير، على أن يكون مفتوحاً للاستثمار من قبل الشركات العربية والعالمية..

ويمكن لهذه المنطقة المقترحة الإسهام في تشجيع التعاون والتكامل العربي بطريقة عملية وذلك بتشجيع الدخول في مشروعات مشتركة تعود بالخير على الجميع، وتسهم في بناء قاعدة مصلحية للتكامل.

ويمكن أن يخدمنا هذا المشروع كمنصة معلوماتية تجريبية تفيد في توفير البيانات ودراسة متطلبات الاستثمار على الجانب الآخر من الحدود، ودراسة تأثير الاتفاقيات والمعاهدات على الاستثمار في المناطق الحدودية، وإعداد خطط استثمار مشتركة في نطاق المعاهدات الثنائية والدولية، وعقد اتفاقات مساندة للتنفيذ، ومقارنة الأنظمة الإدارية والسياسة والأنظمة المالية والميزانيات والموارد المتاحة في المناطق الحدودية المتقابلة، ومعالجة المشاكل البيئية والصحية المشتركة، والاتفاق على الالتزام بإجراءات مشتركة لمعالجة مشاكل الهجرة غير الشرعية والنشاطات المحظورة الأخرى ودراسة تأثير الجذب السكاني للمشاريع الموطنة على جانبي الحدود في المدى الطويل.

ويتوقع في حالة استكمال متطلبات الاستثمارات الحدودية المشتركة من خلال المنطقة الحرة المقترحة أن تخلق فرصاً استثمارية جديدة قد لا يمكن توافرها بالإمكانيات الذاتية للقرى والمراكز الحدودية في العراق والسعودية والأردن في ذلك المثلث الحدودي الفريد من نوعه بين الدول، وذلك من خلال ما يعرف بأثر حرية التجارة.

* اقتصادي وباحث إستراتيجي سعودي

alitawati@