-A +A
حمود أبو طالب
متعب جداً أن نسمع عن تعب شاعر، لأن الشاعر «الحقيقي» كائن مختلف، كائن ابتعد وتسامى كثيراً عن الخوض في ماديات الحياة والحرص على تجاوزها بأقل الأضرار كما نفعل نحن غير الشعراء. هو كائن يُتلف حياته ويعطب عمره من أجل أن يعزف لنا نزف وجدانه كي يخفف عنا ثقل الحياة، يحكم على جسده بالإعدام لصالح شاعريته حتى لا يفسد رسالته التي وجد نفسه مكلفاً بها ولا خيار له سوى أن يبلغها، لكنه في النهاية كائن لا يموت لأن شعره يخلده بعد وفاته.

(الألمعي، محمد بن زايد) نموذج فخم لمثل هؤلاء الشعراء. وجد نفسه ذات يوم مبكر من عمره أنه مخلوق ليكتب الشعر فقط، فقاله. لكنه بعد وقت وجد أنه مصاب بداء عضال متعب هو الفكر فرحب به وشقي به وانتبذ منه كثيراً ليكون شاعر الفكر أو مفكر القصيدة، فصار يبني القصيدة على أعمدة راسخة من الفكر، ويموسق الفكر بوجدان خاص به لا يشبه الآخرين، وخيال يحلق في علو هو فلكه الخاص به. يستبيحك محمد عندما تسمع قصيدته، وينتهك أشد تمنعك إذا ساورتك نفسك الأمّارة ألاّ تُعجب بالشعر وتستسقي من مطره.


متعب أن تحب شاعراً، ومتعب أكثر إذا أحبك الشاعر، فكيف إذا كان بينكما أشياء غير الشعر، كيف عندما يكون هناك عمر تزدحم فيه تفاصيل لا حصر لها، وما بيني وبين محمد أطول وأثرى وأعمق وأجمل من أن يحيط به العمر مهما امتد، فمنذ عرفته وأنا أزداد به ولعاً لأنه يمعن في إدهاشي به، ليس كشاعر فحسب وليس كمثقف استثنائي فحسب، ولكن كمحمد بكل ما فيه، كل ما فيه، وليس فيه إلا كل شيء جميل وخصلة نبيلة. انتصب كالرمح وقاوم ببسالة ومروءة عندما كان في مرمى سهام الظلام لأنه كان يرى نذر الخطر المحدقة بوطنه ومجتمعه، أوذي كثيراً لكنه لم يمارس دور الضحية، وظل نبيلا وفارساً محباً لوطنه برؤيته الخاصة. كتب الشعر وصدح به جهراً حتى كاد أن يودي بنفسه إلى تهلكة لكنه لم يتوقف عن أداء رسالة الشاعر والمثقف والمواطن الناصع في زمن كانت تلفه العتمة.

لم يكن يعبأ بأي شيء في سبيل رسالته الإنسانية، حتى صحته. يعبُّ من الحياة كفتى في مقتبل العمر، يقطف مباهجها ويعيشها ويغني لها، ويتعامل معها بحكمة العارف بتفاهتها، لكنه كان يعطي لها دروساً بليغة كي تبلغها لبقية الأحياء. لم أكن أتصور أن قلبه بالذات سيحتج عليه، لكنه فعلها مؤخراً. أخيراً أعلن قلب محمد زايد الاحتجاج عندما وخزه وأجبره يوم الأربعاء الماضي على الخضوع لإجراء يفك الاشتباك بين التعب وأحد شرايين قلبه، لكن لأن الله يعرف قلبه الجميل خرج سليماً معافى، كانت لحظة شبه قاتلة لي عندما علمت عن تعبه، ولأني أعرف تعاليه على التعب مهما كان اتصلت به كي أستدرجه لقول الحقيقة، فكان رده ضاحكاً ساخراً واعداً أنه لابد من تجاوز التعب بإهمال التفكير فيه.

سلامات أبا عبدالخالق، سلامة قلبك الذي نحتاجه كثيراً. سلامات يا خال.