-A +A
طارق فدعق
الحمد لله أنني من المتفائلين جداً بكل صغيرة وكبيرة. وبدأت نهاري اليوم بالتركيز على جلب الإيجابيات فرميت بعض الملح فوق كتفي للمزيد من الحظ. وكنت محظوظاً فعلاً لأنه كاد يصيب زوجتي وبلطف الله تفاديت أحد التحديات الكبرى. وسبحان الله أننا لا نعطي الملح حقه من الاحترام، فخصائص وقصص هذه النعمة الأساسية كثيرة وتستحق وقفات تأمل كثيرة، واخترت لكم التالي: لنبدأ بتركيبتها العجيبة فكلمة ملح ترمز إلى العديد من المركبات الكيماوية وأشهرها على الإطلاق ملح الطعام وهو كلوريد الصوديوم.. صوديوم وكلور. كلا العنصرين من العناصر شديدة التفاعل لدرجة الجنون؛ الصوديوم يشتعل حتى ولو وضعته في الماء البارد.. تخيل أنه يطفو على وجه الماء بعصبية عجيبة، ثم يشتعل فيصدر اللهب، وكأنه من الناس الذين لا يطيقون الدنيا ولا حتى يطيقون أنفسهم، ويريدون أن يتخاصموا مع كل البشر دون أي سبب. وأما الكلور فهو من الغازات السامة المدمرة. تم استخدامه في ولادة الحرب الكيماوية في الحرب العالمية الأولى، وكان يوضع في أوعية تحملها القذائف المدفعية العملاقة لتطلق على جنود الحلفاء من القوات الألمانية، وأطلقوا عليه اسم «جروين كراوس»؛ أي الصليب الأخضر. ولو دققت في المنظفات المنزلية الفتاكة المكافحة للجراثيم بداخل منزلك الآن ستجد في الغالب أن مكوناتها هي عبارة عن كلور وبعض الإضافات الثانوية. الشاهد هنا أن كلاً من مكونات الملح الذي نأكله كل يوم رهيبة في مفعولها وقوتها لو كانت منفردة، ولكن الخالق عز وجل يجمعها بطريقة تزيل مخاطرها وهذه من ألطافه التي لا تعد ولا تحصى. ومعلومة على الماشي حيال إحدى أكبر شركات الملح في العالم وكانت تبيع الملح في كل مكان واسمها «مورتون» وعلامتها التجارية بنت صغيرة تحمل شمسية وينهال عليها الملح كالمطر. العجيب أن هذه الشركة كانت تصمم وتنتج المحركات الصاروخية العملاقة التي كانت تدفع المكوك الفضائي. حجم كل من تلك الصواريخ كان يعادل حجم طائرة الإيرباص 320 وكان يولد قوة تفوق ما تولده خمس طائرات بوينج 747 (جامبو).. كل هذا من شركة «بتاعة ملح».. والمرادف لذلك أن تكتشف أن محل «لدو ولبنية» مثلا يصنع المفاعلات النووية المتقدمة.

ونعود للملح، فنجد أن هناك حضارات بأكملها نشأت عبر التاريخ بسبب وجوده، بل إن هناك وجهة نظر تقول إن تاريخ العالم القديم هو تاريخ الملح. كان من النعم النفيسة الغالية جداً لدرجة أن شهرته الرسمية التاريخية هي «الذهب الأبيض»، وكانت مصادره سواء في المناجم أو بالقرب من الشواطئ تعتبر من الكنوز الطبيعية. وكدليل على ذلك ستجد أن العديد من التجمعات السكانية في مناطق مختلفة حول العالم تحمل اسم الملح في العديد من اللغات. ومن العجائب أن اسم الملح باللغة التركية هو «طز» أعزكم الله. وثالث أكبر مدينة في البوسنة تحمل اسم «طزله» نسبة الى كونها تاريخياً من أشهر مدن الملح، واسم مدينة «سالزبورج» في النمسا معناها مدينة الملح فاسم الملح باللاتينية هو «سال». وكلمة «سلطة» مشتقة من الملح.. وكلمة «صلصة» أيضا.. بل والكلمة الإنجليزية للراتب Salary مصدرها أن الرواتب كانت تدفع بالملح.. ولكن الأهم من ذلك كله هو أن الملح كان أغلى ما تملك الحكومات عبر التاريخ بسبب كونه كنزا من كنوز الضرائب. وفي فرنسا بالذات كانت هناك ضريبة ملح اسمها «جابيل» وكان ذكر الكلمة يولد حالة خليط بين الرعب والقرف في فرنسا بأكملها. وأما في إنجلترا فبمطلع الثورة الصناعية تم إلغاء ضريبة الملح في البلاد، ولكن تم رفعها على الهنود الغلابى في المستعمرات إلى أن ثار عليهم «غاندي» وأتباعه، فكانت إحدى أهم الوقفات الإنسانية التاريخية.


أمنيـــة:

ما أكثر النعم التي نحسب أنها بسيطة رغم أهميتها الكبرى في حياتنا. أتمنى ألّا ننظر إلى نعمة الملح باستخفاف، فخلفها فوائد ومعلومات تاريخية لا يعلمها إلا الله.

وهو من وراء القصد.

* كاتب سعودي