-A +A
حسن راضي
يتجه إقليم كردستان نحو الاستفتاء لتقرير مصيره السياسي عن العراق يوم الخامس والعشرين من شهر سبتمر الحالي، وتتجه معه أنظار العالم والمتابعين نحو نتيجة هذا الاستفتاء الهام وتداعياته على منطقة الشرق الأسط بشكل عام وعلى المنطقة العربية بشكل خاص. ليس الهدف من كتابة هذه السطور مناقشة حق الشعب الكردي في تقرير مصيره وإعلان دولته القومية، لأن هذا حق جميع شعوب العالم أن تعيش حرة كريمة على أراضيها دون وصاية وشروط من الدول أو الشعوب الأخرى. وذلك حسب ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو مبدأ إنساني لا نقاش عليه، بل الهدف رصد هذا الحدث وتحليل تداعياته الإستراتيجية على المنطقة العربية، ووضعه في ميزان الربح والخسارة لأطراف معنية به بشكل مباشر.

تمر العديد من مناطق العالم اليوم بتحولات وتحديات كبيرة، لكن دون أدنى شك ان المنطقة العربية تمر بمتغيرات وتطورات في غاية الأهمية والخطورة، نتيجة تداعيات الثورات التي عرفت بالربيع العربي والتدخلات الأجنبية، والتي وضعت الدول العربية ومجتمعاتها على حد سواء أمام تحد خطير ومخاض عسير ومنعطف تاريخي لم يمر على منطقتنا منذ قرون طويلة. ستصحو المنطقة بعد الانتهاء من الحروب الداخلية والمؤامرات الخارجية على وضع جديد يختلف تماما عما كانت عليه خلال القرن الماضي، وستكون من أهم إفرازاته ظهور دول جديدة في المنطقة وتقسيم بعضها التي تدور رحى الحروب والصراعات الداخلية فيها وفي مقدمتها العراق وسوريا واليمن، على المدى المنظور. وبما ان قضايا دول المنطقة متداخلة، فستتأثر نتيجة تلك المتغيرات وستنعكس سلبا وإيجابا على بعض الدول والشعوب، وسيمتد «دومينو التقسيم» إلى دول أخرى، أهمها إيران وتركيا، كنتيجة طبيعية لحركة الشعوب في تلك الدولتين من جهة وتأثرا بالهزات الارتدادية لزلزال التغيير الذي ضرب المنطقة من جهة أخرى. ولعل حديث السيد إنطوني غوتيرس الأمين العام للامم المتحدة يوم التاسع عشر من شهر سبتمبر الحالي ومن منصة الجمعية العامة للامم المتحدة والذي حذر من «تفكك المجتمعات» كأحد التحديات التي تواجه العالم، كانت إشارة واضحة إلى ما تمر به المنطقة العربية من فوضى وحروب ستؤدي بالنتيجة النهائية إلى تفكك عدد من دول المنطقة.


قد عزم إقليم كردستان العراق على إعلان استقلاله السياسي والذي كان قائما على أرض الواقع منذ بداية التسعينات من القرن الماضي وبالتحديد بعد حرب الخليج الثانية، عندما خرج الإقليم الذي كان يتمتع بحكم ذاتي، عن سيطرة حكومة بغداد، نتيجة الحرب والحصار الذي فرض على العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من دول العالم. ويأتي عزم كردستان لإعلان استقلاله السياسي عن العراق نتيحة الرغبة الشديدة للكرد في قيام دولتهم القومية، والتي وجدت في المتغيرات الكبيرة التي تعصف بالمنطقة فرصة قد لا تتكرر بعد قرن من الزمان، والتي شكلت تلك المتغيرات حاضنة مواتية لذلك الإعلان الموعود. وبغض النظر عن حصول الاستفتاء في موعده المعلن أو تأجيله إلى وقت آخر نتيجة الضغوط الإقليمية التي تمارسها عدد من الدول، سيكون نقطة البداية للتغير والتحول الجيوبوتيكي ليس في العراق فحسب، بل سيمتد بشكل سريع نحو سوريا وإيران وتركيا، تلك الدول التي تتواجد فيها القومية الكردية. وستتأثر جميع تلك الأجزاء بهذا الحدث التاريخي بشكل مباشر. وإذا كان الجزء السوري من الكرد قد شق نصف طريق شقيقه في الجزء العراقي، قبل أن تحط رحى الحرب أوزارها في سوريا، فمن المؤكد أنه سيصل إلى مبتغاه بسرعة كبيرة، خاصة إذا أخذنا الدعم الأمريكي له بعين الاعتبار تحت غطاء محاربة داعش في سورية من جهة، والمصلحة الإسرائيلية في تقسيم سورية إلى دولتين عربية وكردية على أقل الاحتمالات، من جهة أخرى.

وأرى من الضرورة الملحة وضع قضية استفتاء إقليم كردستان العراق، في ميزان الربح والخسارة للعرب، من خلال طرح السؤال التالي: هل سيخسر العرب في حال قيام دولة كردستان أم سيربحون؟ وماذا سيكون نصيب جيران العرب وبالتحديد إيران وتركيا من ذلك التغيير الكبير في خارطة المنطقة. وبنظرة سطحية، يعتبر العديد من العرب أن استقلال كردستان خسارة كبيرة لهم، لكن الحقيقة عكس ذلك تماما، خاصة إذا نظرنا بعمق ورؤية مستقبلية لتداعياته الحتمية على العرب وجيرانهم على حد سواء.

وبما أن الشعب الكردي قد وزع على أربع دول، هي تركيا وإيران وسوريا والعراق في بدايات القرن الماضي وبالتحديد في عملية معاهدة «سايكس بيكو» التي قسمت شعوب المنطقة الى دويلات عديدة حسب المصلحة البريطانية الفرنسية في تلك المرحلة، فإن أي تطور إيجابي أو سلبي لاي جزء من تلك الأجزاء الأربعة، سينعكس بشكل مباشر على الأجزاء الأخرى. تشير المؤشرات إلى أن القومية الكردية في إيران وتركيا ستلتحق بإشقائهم في العراق وسوريا بشكل عاجل، نتيجة ظروف الكرد الذاتية وظروف المنطقة الموضوعية الجاهزة للتغير.

وتعتبر الزيارات المكوكية التي قام بها المسؤولون الإيرانيون لبغداد وأنقرة وأربيل لنقل الرسائل التهديدية لإقليم كردستان، من جهة، وما قامت به تركيا من زيارات إقليمية ودولية ونشر قواتها العسكرية على تخوم كردستان في إطار مناورات عسكرية من جهة أخرى، محاولات لإلغاء الاستفتاء أو لعرقلته، خوفا من ارتداداته ومستحقاته المستقبلية. وأكد على تلك المخاوف أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني «محسن رضائي» الذي زار العراق في بداية شهر سبتمبر الحالي بمعية رئيس المجلس «هاشمي شاهرودي»، حيث قال: «استفتاء كردستان سيؤدي إلى تداعيات خطيرة ونحن ضده، ولو جرى تقسيم العراق، فإن الأمر سيمتد إلى سوريا وتركيا وتندلع حروب انفصالية في المنطقة». وأضاف رضائي «إن هذا هو سبب معارضة إيران وتركيا وسوريا والعراق الشديدة للاستفتاء». وأكدت وزارة الخارجية الإيرانية هي الأخرى عبر متحدثها بهرام قاسمي، خطورة تداعيات الاستفتاء على الوضع الداخلي الإيراني بقوله: «إن استفتاء إقليم كردستان العراق خطأ إستراتيجي، يهدد أمن واستقرار العراق، ويجر المنطقة للفوضى والتقسيم».

يأتي تخوف إيران ومعارضتها الشديدة لاستفتاء كردستان العراق ليس حرصا على وحدة العراق كما يزعم قادة طهران، بل خوفا من تداعياته الحتمية على الشعوب غير الفارسية في خارطتها، حيث تعتبر كردستان العراق الحاضنة الأساسية لمعظم قيادة كردستان الشرقية (كردستان الواقعة تحت إحتلال إيران) والمجموعات المسلحة (البيشمركة) التابعة لها. من هنا يتبين أهداف ودوافع التهديدات الإيرانية التركية الرامية إلى وقف «دومينو التقسيم». سيخلق إعلان استقلال كردستان العراق ديناميكية قوية لدى أكراد إيران وتركيا، بل ستدفع الشعوب الأخرى التي ترزح تحت احتلال إيران كالعرب الأحوازيين والبلوش والتركمان والترك الأذربايجانيين إلى اتخاذ خطوات عملية في نفس الاتجاه، وعندها سينفرط عقد إيران.

وتعي طهران جيدا بأن الشعوب غير الفارسية في خارطتها تناضل منذ عقود من أجل استقلالها السياسي، حيث ربطت تلك الشعوب نضالها، بل مصيرها ببعضه عبر تحالفات سياسية وعمل مشترك، تبلور في ساحات عديدة وهي عازمة على ترسيخه وتقويته، نظرا للتحدي المشترك الذي يواجه وجود تلك الشعوب من قبل طهران. وتؤكد المعلومات والتحليلات بالاتفاق، عند أبناء الشعوب غير الفارسية في إيران، على حقيقتين إساسيتبن وهما: الأولى، بأن النظام الحاكم في طهران سيكون آخر نظام يحكم جميع الشعوب غير الفارسية في الخارطة الإيرانية. والثانية، أن خروج أي قومية من تحت الهيمنة الفارسية، سيؤدي بالضرورة إلى خروج القوميات الأخرى، وفي حال خروج القومية الكردية على سبيل المثال من الهيمنة والسطوة الإيرانية، هذا يعني تفكك إيران على أساس قومي.

وبخروج الأحواز من الهيمنة الفارسية وعودتها إلى الحضن العربي، سيعوضون العرب ما خسروه من أراض وثروات في العراق وسوريا جراء انفصال كردستان من تلك الدولتين. وإذا ما قارنا خروج كردستان من الخارطة العربية وعودة الأحواز إليها بالأرقام، فيمكننا القول إن العرب هم الرابحون من عملية تقسيم المنطقة، حيث مساحة الأحواز (٣٧٠ ألف كيلومتر مربع) تعادل نحو تسعة أضعاف مساحة كردستان العراق (٤٠ ألف كيلومتر مربع)، وثرواتها النفطية تعادل أربعة أضعاف ثروات كردستان النفطية، حيث تمتلك الأحواز من الاحتياطات النفطية المؤكدة نحو ١٦٠ مليار برميل، مقابل نحو ٣٨ مليار برميل في كردستان العراق. وتمتلك الأحواز ثروة الغاز الهائلة وهي تشكل ثاني احتياطي الغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا بمقدار نحو ٣٤ مليارا و٢٠ مليون متر مكعب. كما أن موقع الأحواز الإستراتيجي المطل على الضفة الشرقية للخليج العربي، سيعطي العرب امتيازات عسكرية واقتصادية وجيبوبولتيكية عديدة. وستكون الجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى ولواء إسكندرونة في متناول اليد بعد زلزال التقسيم القومي الذي سيحل في تركيا وإيران بعد العراق وسوريا. فأهلا بدومينو التقسيم، وبعودة الأحواز والأراضي العربية الأخرى إلى الحضن العربي، وبمجيء الحق وزهوق الباطل.

حسن راضي *

* باحث في الشأن الإيراني