-A +A
مستورة العرابي *
تناولت المدونات السردية السعودية مواضيع عدة تتعلق بالذات، والواقع، والميتاسرد، باعتبارها تمثّل الثيمات الكبرى التي اتكأ عليها السرد السعودي وهو يبني شعريته.

ويعد القاص عواض شاهر من أهم كتاب القصة الذين تمكنوا من الاشتغال على ثيمة الصحراء، كما يتبين ذلك جليا في مجموعته (رفيقة إلى البيت) التي صدرت عام 2016م.


يستعرض عواض شاهر في مجموعته (رفيقة إلى البيت) مجموعة من الصور المتعلقة بالمكان الصحراوي المكتنز بقيم البداوة، على أساس أنه مكان حميم وإنساني، يحدّ من الرتابة والوحدة، ويغذي ذاكرته بالصور الموحية. لذا، تبحث الشخصية الرئيسة عن مكان تقضي فيها وقتها؛ لبناء ذاكرتها الجدلية التي تنتقل في الزمان والمكان باحثة عن الفضاء المثالي، كما في قصته (تأخرت كثيرا): «ها أنذا أبحث، منذ ساعة، عن صور من الريف الهادئ...».

وينقل لمتلقيه أجواء الصحراء بقفارها الجدباء، وعاداتها الصارمة، وصراعاتها الطائشة، ويستعمل في ذلك معجمه الصحراوي، ففي أقصوصة (نقرة على الآتي) التي تحمل خلفية معرفية وتناصية تتعلق بالحروب العربية الحالية التي تحيل على صراع القبائل في الماضي، مثل: حرب البسوس وحرب داحس والغبراء. ومن ثم، تدين هذه القصة واقع الحروب العربية، وقد استحضر المبدع المسيح الدجال، ضمن تناص ديني، للإحالة على المصير المرتقب.

ولأن المبدع هو ابن الصحراء نجده يلتصق بوسطه الإيكولوجي التصاقا حميما، كما يبدو ذلك في قصة (الكلاب)، حيث يقدم لنا صورة سردية واقعية عن قربه من هذا العالم الذي كان يتناسل في حقله بشكل عجيب؛ فينقل الفضاء الصحراوي بكل عوالمه الإنسانية والحيوانية والجامدة، سواء أكانت صامتة أم صائتة، بحس عميق، ورؤية إنسانية صادقة، وشعور نبيل بما يدركه ويلاحظه من كائنات غريبة تتقابل مع الكائنات البشرية في سلوكياتها وتصرفاتها وغرائزها. وأكثر من هذا يتأثث الخراب الصحراوي، بعد أن غادره الأهل، بهذه الحيوانات الأليفة الخائفة التي تشكل حياة الإنسان البدوي في مسارها الوجودي والكينوني «في شبابه كان يرى الحلم كثيرا، الحلم نفسه دون تغير مهم في المشهد، كان يرى كلبة ضخمة تلد في حقله الكثير من الجراء...».

يوظف المبدع، في هذه القصة، الخطاب الحلمي القائم على فعل التذكر والاسترجاع، ذلك المكان الذي يتسم بسمتين متناقضتين: الألفة والعدوان، وتتضمن القصة رؤية صحراوية إلى العالم كرؤية عبدالرحمن منيف في معظم رواياته. ويبدو ذلك جليا في القاموس الصحراوي الموظف: الكلبة الضخمة- الحقل- الكلاب- الجراء- الخراف- الديرة- الخراب- تخلو الدور...

كما أبدع في تصوير عالم الذئاب، كما تتحرك -وجوديا وغرائزيا وطبيعيا- في فضاء الصحراء، وأن يجعل منها إطارا للتشكيل والتخييل، وتحويله إلى فضاء مشهدي سينمائي لالتقاط تفاصيل الحياة الإنسانية في مختلف تناقضاتها الجدلية؛ بل تتحول هذه الحيوانات إلى رموز فنية وجمالية كالذئب الذي يتحول في قصة (احتمالات) إلى رمز يحيل على مقومات دلالية وسيميائية عدة، كما تحيل عليها في قصة يوسف عليه السلام، كالقتل، والغدر، والحيلة، والادعاء، والخوف، والجبن، والغباء، الطمع، والرغبة في الزواج بإحدى حسناوات البادية؛ بمعنى أن الراوي قد استحضر قصة الذئب والقطيع؛ ليعبر عن كل الاحتمالات الممكنة التي تتحكم في علاقة الصحراوي بهذا الحيوان المتوحش، كما تندرج هذه القصة ضمن التخييل الدرامي (راح يقلّد بشيء من الإتقان صوت الذئب)، وأيضا ضمن ما يسمى بالقصة الميتاسردية التي تركز على هموم القصة وفنياتها الجمالية، مع تبيان كيفية انبنائها (صمت الراوي.. نسي نهاية الحكاية. وبقيت النهاية مفتوحة على احتمالات شتى)، وهذا مظهر من مظاهر حداثة هذه القصة السردية.

وتحيل قصص عواض شاهر على مقومات البادية الصحراوية بعوالمها إيجابا وسلبا، ومن بين هذه العوالم هو التوقف عند النحال في علاقته الإنسانية مع عوالم النحل، وتصوير ما يحدث في أثناء مرض النحال من احتمالات ممكنة تصل إلى درجة الإدراك العميق بالمجال المحيط، ورصد سلوكيات النحل في تصرفاته الطائشة أو الطبيعية أو الفطرية أو الغريزية بواقعية مرهفة، وإحساس إنساني دافق، كما في القصة الشذرية المعنونة (خاتمة):

«حين يمرض النحّال الأخير بسبب تقدمه في السن يحدث الآتي على الأرجح:

ـ يموت في مرضه ذاك.

ـ ينتظره النحل حتى يمل ثم يتفرق.

ـ يُسرق العسل.

ـ تندثر المنحلة».

ولأن هذا المبدع عاشق للصحراء؛ فقد قام بتحويلها إلى فضاء إيجابي، وجعل منها فضاء لاكتشاف المجهول بغية تحليله وبناء معانيه ورموزه من جديد، كأنه باحث أنثروبولوجي حصيف؛ ففي علاقته الإنسانية بدويبة الحريش التي يلتقطها في ذاكرته المسترجعة بطريقة تخييلية رائعة:

«متذكرا ما حدث، قال وهو يتمطى في ذاكرته من جديد، وبهدوء همست: أدعو دويبة الحريش ألا تكترث لعدد أرجلها، وهل هي 44 أم 42؛ بل تكترث للنقطة التي وصلت إليها الآن..».

وما يستوقفنا في هذه القصة هو طابعها الصحراوي؛ فقد نقل بكل دقة وعمق عالم دويبة الحريش، وهي تلتصق بحذاء السارد الذي يحاول سحقها، لكنه لم يقدر على ذلك حتى أوصلها إلى عتبة داره، واستطاعت أن تنفذ إلى أعماق شعوره، وتستأنس بوجوده. ومن ثم، فما يميز هذه القصة هو الإنصات العميق جدّا لعوالم جزئية صغيرة في غاية الدقة والنفاذ.

وتبلغ شعرية المكان ذروتها في قصة (تثاؤب) التي التقط فيها المبدع تفاصيل المكان البدوي بمورفولوجيته الجغرافية والبيئية والبشرية والإنسانية، في علاقة جدلية بدورة الزمان، وثنائية الموت والحياة: «في حركته الأخيرة، كان الجبل شديد البطء. البعض وصف ما حدث بالتثاؤب الصخري البليد الممل. غير أن ذلك لم يخل من إضافة جديدة إلى رحلته التنازلية نحو الأودية والسهول المجاورة، صخرة كبيرة أخرى سقطت من سفحه..»؛ فنلحظ بأنه شخّص الجبل البدوي في صراعه السيزيفي والأسطوري، وانبعاث الطبيعة السفلية منه في شكل وديان، وأحجار، وسهول، وغروس، واستطاع أن يرسم دورة الحياة التي يمر بها الجبل في دورة الحياة من الولادة حتى الممات والانبعاث والتناسل والخصوبة. إنها تشبه في الحقيقة، دورة الحياة الإنسانية، أو تشبة أسطورة الموت والانبعاث.

إن هذه التجربة القصصية لعواض العصيمي تسعى إلى الانتقال من البسيط التقليدي إلى الشكل الفني الجمالي، ومن مرحلة التعبير النمطي الرتيب إلى مرحلة الإنتاج المتجدّد والمتحوّل؛ وعلى هذا، فالمخزون الثقافي والجمالي له يحبل بالعديد من المشغولات البدوية المكثفة التي تنمو وتتفاعل وتتحوّل داخل وجدان إبداعي مشترك مجسدة بذلك قدرة الإنسان الصحراوي على الإضافة الثقافية والفكرية والخَلق الفني باستخدام خامات تعبيرية مستعارة من التربة الصحراوية الخصبة وفق رؤية تخييلية معبرة بشكل عميق ونافذ ومرهف.

* ناقدة سعودية