-A +A
محمد الضويحي
على مفترق الطرق أقف وتتسع أحلامي باتساع الروح وفي يدي سلاح بدا بيني وبينه الود والألفة وفي عيني كابول ومن ورائها القدس وفي قلبي أمي وأبي والأهل والأصحاب، أتممت معسكر الفاروق بنجاح وتحديت كل الصعوبات، وبت الآن مقاتلا على أهبة الاستعداد لخوض معركة الأمة في أفغانستان ولا يمنعني شيء سوى أن أنتقل منه إلى إحدى جبهات القتال المحتدمة كانت الخيارات كلها متاحة والآن أنا في طريقي بعد إتمام التدريبات متجها نحو بيشاور وبالتحديد إلى مضافة أسامة بن لادن.
ركبت بنفس الوسيلة التي أتيت بها في صندوق سيارة الهايلكس متوجها بكل الطموح الذي ما زال يتقد في القلب ويتمايل رأسي من أثر السير بين الوديان وقمم الجبال كما تتمايل في رأسي فكرة العودة للرياض أو البقاء في أفغانستان نمخر الطريق حتى وصلنا لمبتغانا مضافة بيت الأنصار في بيشاور.

أخذت حقيبتي ورميتها في أحد غرف المضافة وحينها لم يكن في رأسي سوى أن أخرج الآن لأفضل مطعم كي أطلب ما تشتهيه نفسي بعد ما يقارب الشهرين من الجوع القصري في المعسكر اتفقت مع بعض الصحبة وتوجهنا مباشرة لمطعم شهير اسمه شيراز على جادة عبدالله رود، وحجزنا طاولة تتسع لستة أشخاص ونحن فقط ثلاثة، وأخذنا قائمة المأكولات وطلبنا كل ما يمكنه أن يشبع نهم بطوننا الخاوية، فأنا قد فقدت وزنا كبيرا وبات جسمي مجرد عظم يكسوه جلد وتغير لونه إلى السمرة الشديدة وعيني التي باتت جاحظتين من فرط مرض الملاريا الذي ما زال يسكن جسدي.
أحضروا أطباق الطعام الذي كنا عازمين أن نقضي حتى على بكرة أبيه من فرط الجوع ولكن للأسف لم نستطع أن نأكل سوى شيء يسير منه؛ لأن المعدة تقلصت بشكل كبير ولم تعد تقوى أن تحتوي سوى بضع لقيمات ثم تتوقف عن المزيد وهكذا كان معسكر الفاروق الذي عودنا أن نأكل فقط ما يسد جوعنا ثم لا نجد شيئا نأكله، فطبق صغير فيه بعض الرز وشحمة طارفة يجتمع عليه خمسة وحوش جائعة ينتهي في ظرف دقيقتين وبالكاد حتى تسد ولو بعض جوعك.
بقيت الأطباق تقريبا كما هي، وخرجنا بعد ذلك نحو سوق صدر بازار الشعبي سوق جميل وتراثي ويعرض الكثير من الأعمال اليدوية والشعبية التي يبيعها المهاجرون الأفغان أو الباكستانيون من أهل تلك المدينة، وبينما أنا وأصحابي في أحد الباصات التي ستنقلنا للسوق كان وقتها صلاة العصر وكانت كل المحلات مفتوحة فقلت بشكل عفوي لصديقي الجزائري كيف يفتحون المحلات والآن وقت صلاة العصر فنظر لي وهو مندهش وقال وهل نحن في بلاد الخلافة الراشدة إبان عهد المعتصم، فقلت له أنا ابن مدينة الرياض وكل المحلات ممنوع أن تفتح أبوابها منذ أن يرتفع الأذان لكل الصلوات، فاندهش من ذلك وكأنه لم يكن يتوقع أن بلدا مسلما ما زال يفعل ذلك.
تجولنا قليلا في السوق وفي شوارع بيشاور وقبل أن تغيب شمس ذلك اليوم قفلنا راجعين نحو مضافة الأنصار وكانت وسيلة نقلنا عربة يسوقها خيل هزيل كهزال تلك المدينة البائسة.
في مساء ذلك اليوم أخذت أفكر وحيدا وأدرس كل الخيارات التي أمامي هل سأرجع للرياض أم أذهب إلى أحد جبهات القتال أم ماذا؟ لا شك بأني تشربت حب القتال وحمل السلاح وشعرت بكثير من العزة والكبرياء وأنا أتخرج من المعسكر وأريد أن أستمر في تحقيق الجهاد لكني بنفس الوقت أعاني كثيرا من مرض الملاريا الذي أنهك قواي وأيضا فأنا قد قطعت وعدا لأبي أن أعود فور الانتهاء من التدريب وأن لا أفوت إكمال دراستي الثانوية وكان هذا العهد مع أبي وأمي ولولا ذلك لما أذنوا لي بالذهاب، وبعد أن قلبت كل الأمور في رأسي اتخذت قرار العودة إلى الرياض كي أتعالج من الملاريا ومنها أقنع أبي -رحمه الله- بأن يأذن لي مرة أخرى للعودة لأفغانستان.
كان إخوة الدرب في مضافة أسامة بن لادن يؤنبوني على قرار العودة ويحاولون إقناعي بأن لا أعود وأن أختار طريق الجهاد سبيلا وكيف ترجع وتترك أرض الرباط والقتال في سبيل الله نحو الدعة والدنيا وتخلد نحو الأرض بعد أن منّ الله عليك بالوصول إلى قمة سنام الإسلام.
كان موقفي وقتها هشا أمام سيل من كلمات اللوم إلا أني قررت الذهاب رغم ما يعتصر قلبي وقتها من الرغبة في البقاء لكني ملزم بالرجوع بينما قرر آخرون البقاء.
بدأت أرتب طريق العودة وأتمم حجوزاتي بأقرب طائرة متوجهة نحو العاصمة الرياض ولم أخبر أحدا من أهلي كي تكون مفاجأة اللقاء أجمل، وهناك في الرياض وفي المدرسة وفي الحارة أختلف كل شيء، فأنا لست من ذهب وهم ليسوا أيضا نفس من تركتهم.