-A +A
جارالله الحميد
لكل خطاب الخطاب المضاد له. يتفقان في المنطلقات ويتفننان في الاختلاف على الهوامش وتحديد ما ليس محددا، وتعريف ما يعتور تعريفه بعض القصور المتعمد والمتغافل والناظر للآخر نظرة تقزيم أو نظرة استعلائية تعلي من شأنه لدى نفسه وتستصغر شأن ذاك بسبب شأن ذاك. وإن بدا واضحا في الثقافة العربية حجم المختلف عليه فإن ما هو ليس واضحا مدى قيمة وتأثير كل التفاصيل التي تشترك في صياغة الثقافة العربية بما هي ذات حمولات ودلالات ومناطق نفوذ ومشيخات متناهية الصغر لكل مشيخة منها عناوينها الرئيسية والفرعية وخطوط الطول والعرض وحتى مدى خطورة الهلام الذي يأخذ شكل مادة ما ويتماهى معها حتى ليظن أن كليهما نفس الشيء.
وكلنا نعرف مدى تأثر الثقافة العربية بحالة التمزق والوهن والتجزؤ التي يمر بها الوطن العربي كجزء من حضارة وإرث الشرق الأوسط ومن جهة كجزء أصيل من ثقافة دول عدم الانحياز المتأصلة في المنطقة بسبب ما ساقها إليه الانحياز من كوارث اقتصادية وتاريخية واقتصادية بمعنى أشمل. لذلك كف (المحررون) العرب عن لعب دور المطلع على خفايا ودهاليز جائزة (نوبل) بعد أن كان يزج في كل عام بأسماء مشابهة (لأدونيس) و(الرحابنة) ومن إلى ذلك. ثم افتعال خصومات جانبية بيننا وبين الغرب والأوروبيين وكأنه كان ينقصنا شكل الاختلاف مع الغرب فقط أما مضمونه فمتفق عليه. وهي الازدراء بل والكراهية التي يكنها الغرب الصليبي الحاقد.

إن الخطاب المضاد لخطاب النهضة المفترض أي: ذاك الذي يعطي انطباعا بقدرة الوطن العربي على الاستمرار في دعم الثقافة والحضارة العالميتين. هو خطاب الكراهية المطلقة للعرب والقول بأنه ينطلق من معطيات غيبية لا صلة لها بالواقع المعاش. ويمعن الخطاب المضاد في طعن الخطاب العربي بكافة التهم التي يحتاج معظمها إلى برهنة وليس إلى استدلال. فلو قرأنا الشعر العربي بإخلاص. ومبتعدين عن النوايا المسبقة لرأينا قامات مثل (المتنبي) الذي قال في بيت له:
(كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا!)
وهو بيت لا يتكرر -لعلكم لاحظتم- لجهة ازدرائه لحال (الموت) وأنه يكفي المنايا فخرا أن تكون أماني هذا العظيم النبيل! ، فلقد تخطى هذا البيت موضوعة الفخر القبلي وتمجيد الفرد حتى جعله يطغى على المجموع بل ويضع هذا المجموع تابعا له (في أحسن الأحوال) إن لم يكن عبدا له !. وسوف تكفينا قراءة لأعمال شعراء كان لهم تأثير وجودي وعلى مدى قرون لكي نتعاهد ألا نكررهم وألا نكرسهم وأن نكون مستقلين عنهم. لا بمعنى القطيعة المطلقة ولكن عبر استلهامهم وإعادة إحياء الكائنات التي شاركتهم حياتهم وشؤونهم. خرج الشاعر من (بشــــــــــت) القبيلة الذي كان يخنق محاولاته لإبداع جديد ومغاير. وبالتأكيد هو مستفيد بشكل أو بآخر من (الماضي) الشعري للأمة.
وإن الخوف من قيام (مشيخات) شعرية هو ما يؤدي بنا إلى رفض الجديد وزيادة التمسك برموز ثقافتنا الماضوية. ونحن هنا لا نهاجم الماضوية ولا نعتبرها إساءة بل إن الحقيقة أن في الماضي منارات رائعة وفيه كثير من الإضاءات والأهم من هذا كان وجود الرجال الحقيقيين في حركة الشعر العربي. منذ كان أهازيج وحداء للجمال كمحفز لها على السير. وهو سير مأمون ما زلنا بسببه -نحن العرب- نعطي الجمال تقديرا وكان الشعراء أشدنا تعلقا بهذا الحيوان الأسطوري الذي يشبه (منظرا) جانبيا لسفينة. كما أنه في تاريخ الشعر العربي قصائد لا تنسى -حتى مع مرور الزمن- مثل القصيدة بالغة الإبهار لمالك بن الريب وهو يرثي نفسه بعد أن لدغته أفعى وبعد أن شعر بالسم يتدفق في عروقه وبعد أن فكر بالمدى البعيد عن جماعة إن لم تشف اللدغة آنست الوحدة. ومن هذا الموقف الإنساني تنسف مقولة إن الشعر العربي -والقديم منه بحد الذات- هو خزعبلات ومديح وغزل ساقط... إلخ. كذلك ينبغي أن يكون حكمنا على الفكر (والشعر جزء طروب منه) دون أحكام مسبقة ، أو رؤى تفتقد التماسك.