-A +A
فؤاد مصطفى عزب
الجمعة الماضية ذهبت لصلاة الجمعة في مسجد يجاور منزلي كان الخطيب يتحدث عن أهمية التصدي لظاهرة تجنيد الشباب الصغار عن طريق دعاة الفتنة للقيام بأعمال جهادية.. كان يتحدث بأسى عن حقائق صادمة مخزية كشف فيها عن كيف تم استغلال زهور الحياة وزنابق الوطن وكيف اختفوا هؤلاء الأبرياء في الأثير وأصبحوا لباسا أبيض ملقى على الأرض على شكل كفن، وكيف تُرِكوا في البرد القارص لتتجمد عظامهم وتحنط جباهم في سجون بعيدة، كان يتكلم بحزن وانكسار، وختم خطبته بالدعاء أن يحفظ الله أبناءنا وأحفادنا ويحفظنا ويحفظ حكامنا وهذا الوطن من حسد الحاسدين.. اتجهت بعد ذلك بغبطة يستشعرها قلبي كل جمعة يدعوني فيها صديقي الحميم ((نجيب يماني)) هذه الغبطة أتركها تغمرني بلا تفكير استمتع بسريانها في عروقي، فصديقي هذا أجد في مجالسته متعة وثراء فكريا كبيرا، فهو لديه من عدل الفلاسفة أكثر مما فيه من مكر الساسة.. إلا أن ملامحه تقول غير ذلك ومن هنا أخطأ الكثيرون فهمه واخترقت أنا هذا الحاجز جيدا..
أشعر عندما أزوره بالتجمع الأسري الحميم تحلقنا بعد الغداء حول شاشة التلفزيون لنتابع أحد برامجي المفضلة شعرت بالامتنان والمذيع يُعلن عن استضافته للشيخ الدكتور عائض القرني كنت أحدق في الشاشة بحميمة منتظرا الدكتور عائض والذي ظهر نظيفا أنيقا كان حديثا لذيذاَ يُلقي بك خارج الزمن كان حديثه رقيقا صافيا رائقا كالحليب واستمر الحديث ينسل كالعبير من الزهور كالضوء من القمر كان المذيع يحاوره بذكائه الحاد ويتابعه كطيار حربي يراقب هدفا صغيرا مراوغا والشيخ عائض يتحدث برقة فراشة على صفحة كوب ماء كانت بسمته التي تتسع لكل الكون تدخلك في حالة وجدانية وروحية تجعلك تندمج مع المتحدث الذي كان يغسلنا بصخوره ومده وجزره وطحالبه الفاتنة.. كلاما مرتبا وجميلا صقيلا ناعما كصائغ يعرض ذهبه وياقوته على أميرة عربية كان يعاتب برقة عندما يكون العتاب ويداعب بوداعة عندما يجد حيزا، لذلك يلقي شعرا بود ويبتسم ويصحح المعلومة دون انفعال، وفجأة قرر المذيع تعذيبنا تعذيبا وحشيا بوسائل غير تقليدية من مبدأ أنه لكي تعيش سعيدا يجب أن تتعرض من حين لآخر للحظات قليلة من غياب السعادة ظهر على الشاشة ((داعية)) آخر!! ولا أعلم حقيقة بأي ميزان عدل نصف الشيخ عائض القرني ومن اقتحم صفاء فضائنا في هذا اليوم بنفس الصفة المتحدث الجديد كان رجلا يصرخ كطفل يوم ختانه، شخصا متوترا قلقا صوته عال، كانت إشعاعات عينيه تخترق الشاشة وكأنها لغم مدمر.. لحيته شعثاء ومشلحه ذو ألوان غريبة، كان يبدو كجزار ثائر بالمذبح صبيحة عيد الأضحى، كان حجم الضجيج الذي يصدره يعجز عن القيام به عنبر كامل من المختلين بمستشفى ((شهار)) للأمراض العقلية، كانت مبارزة في الصبر مني ومستضيفي ونحن نستمع لهذا الرزيل الثقيل، كان الكلام غير مريح وغير مقنع، كان الرجل يهدد كالوحش الثائر يقول كلاما خانقا عنيفا يفتقد الكياسة والذوق، كان المنظر مذهلا تماما، كلام كخلفية موسيقية يقيمها أوركسترا من الصم والبكم، كلام مسترسل غير منسق ولا مترابط ولا متزن، كنت أتابعه ولم استطع محو ابتسامة الاستخفاف على وجهي، كان يتحدث كالتلميذ الخائب الذي استنفد مرات الرسوب وأصبح لا يأبه للأهل والأصدقاء ولوم اللائمين ركبني العصبي وأنا أتابعه يهدد الحكومات ((بالنفير)) وكأنه قطب كبير في المجرة الكونية كأن الكون كله قد خلا إلا منه.. لم استوعب ما يقصد بالنفير في بادئ الأمر إلا بعد أن كرره أكثر من مرة وكالحاوي الذي فشل في إدهاشك، فقرر أن يقدم لك خدعة كبرى وقف وضرب الطاولة بقبضته.. بعد أن انتهى كل ذلك المهرجان التفت إلى ((أبو أحمد)) قلت له هذا الرجل يفترض ألا يسكت على نفسه وأن يتجه إلى الدكتور ((جمال سالم الطويرقي)) طبيب علم النفس السعودي الشهير.

ضحك صديقي ضحكته التي تتأرجح بين الذكاء والسخرية، وقال لي ألم تلاحظ أن المذيع أشار في البداية إلى أن ذلك الداعية كان مقاولا في الأصل ثم استكمل بصوت محايد وكمحقق مخضرم وهو يدير نظره عن الشاشة بعد أن حس بما أمر به من ضيق قال لي هل تعرف من هو كفيل هذا الداعية؟ قلت له بالطبع لا، قال لي لابد من البحث عنه لإعادة مكفوله من حيث أتى وهذا طلب منطقي فقد تكاثرت هذه العينات مؤخراً وتغيرت أجندتها وطبيعة عملها وآن الأوان لإعادتها لمصدرها.. ضحكت ضحكة خالصة من القلب وخبطت على يده منتشئا وأنا أقول له والله العظيم فكرة يابو أحمد !!