ثقافة وفن

ذاكرة مثقوبة

محمد محسن

فجأةً شعرت بذاكرتي وهي تكاد تفرغ، كان ذلك منذ أربعة أعوام، وفي أحد مساءات الخريف تحديداً، حين كانت الغيمات الماطرة ترسل زخاتها العنيفة نحو الحقول الشاسعة، والرياح تهز الأغصان الضخمة فتتساقط أوراقها الصفراء.

في البداية لم أحفل بذلك ولكن مع مرور الوقت بدأت ألمس فراغاً مريعاً في ذاكرتي وتنبهت إلى أني أفقد الكثير من الحكايات، ولم يعد بمقدوري استدعاء ما تبقى منها فجلها بُترت، بعضها أصبح بلا رأس، والجزء الأعظم بلا قدمين.

لم ألبث حتى بدأ ماضي يتحول إلى صفحة شبه بيضاء تسكنها علامات وحروف لا معنى لها، ما جعلني أتيقن أني أحمل في رأسي ذاكرة مثقوبة.

باستمرار كان الثقب يتسع وتتسرب من خلاله الذكريات بصنوفها، حكايات الطفولة، ووجوه الأصدقاء، وأصوات العجائز، كانت تختفي الملامح فجأة فتغدو كحائط مصمت وتفقد الأصوات نبراتها فتمسي بلا فيه.

وتخرج الحكايات من ذاكرتي خلسةً، كأنما تسير على أطراف أقدامها فلا أشعر بها حتى تتجاوز أسوار ذاكرتي وتتشظى كالزجاج ثم تتطاير في الفضاء وتبقى عالقةً هناك لتصبح استعادتها ضرباً من المستحيل.

بعد عامين لم يكن قد بقي في ذاكرتي الكثير وما علق فيها لم يكن الجزء الذي أفضل.

ولذلك كانت الذكريات تؤلمني، تؤلمني بشدة، وكلما صعدت حكاية منها إلى مخيلتي شعرت ببذور الألم تنبت داخل الندوب المنتشرة على جسدي وتنمو تحت جلدي فأغمض عيني حين توشك على تمزيقه، وهكذا استمر الحال بي حتى قرأت أن كتابة الأحداث المؤلمة ومن ثم حرقها هي طريقة مثلى ووصفة علاجية لتخليص الذاكرة من آلامها، وشعرت حينها بأني قد عثرت على ما سيريحني من ألم الذكريات.

لكن ذلك يعني أن أمحو ذاكرتي تماماً، وهذا قرار مصيري بالنسبة لي لأني سأحيا بعد ذلك دون ذاكرة، حتى تلك الحكايات المؤلمة التي تثبت أني كنت موجوداً خلال العقود الماضية ستتحول إلى رماد تذروه نسمة هواء، فأن تصبح ذاكرتي فارغةً تماماً من أحداث الماضي يعني إني فعلياً سأصبح غير موجود، غير موجود بتاتاً، ومع ذلك ورغم بشاعة ما كان ينتظرني فقد بقيت الفكرة تراودني حتى استسلمت لها.

وفي الشتاء الماضي بدا أحد المساءات مناسباً جداً لإحراق ذكرى، كان هادئاً وحالك السواد وبلا رائحة تذكر فقد كانت الغيمات تحجب ضوء القمر خلف ظهرها وتخبئ نور النجمات في ردائها الفضفاض، ولا هواء يحمل نفحة ما عبر العتمة.

كتبت ما يقارب المائتي صفحة، كانت أشبه برواية ولكنها كتلك الروايات التي لا تنفك تذكي الحنق في صدر قارئها. تدفقت الكلمات كالحمم وكانت تصف ما كنت ممتلئاً به وكأن هناك ما يغوص في أعماقي ليفتش عن جراح غائرة فيخرج أحاسيس مختبئة ومشاعر أغرقتها السنون، كنت أستعيد الذكريات المؤلمة وأستشعر وخزها بطريقة تتجاوز لحظة حدوثها وبألم يفوق ما كنت أعتقده، وما أن فرغت حتى سرى هياج ما في دمي سارعت لأطفئه بإشعال النار فيها. بدت النار نزقة كما هي عندما تتعثر في كومة قش فتستعر سريعاً، وحين استطال عنقها شعرت بالدخان يخرج من ذلك الثقب الموجود في ذاكرتي وينتشر في الهواء، لوهلة اعتقدت أني أوشك على التخلص منها، ولكني سمعت صراخاً لأناس أعرفهم ورأيت أصدقائي يقفزون عن تلك الأوراق لينجوا بأنفسهم، ويلقون بأجسادهم من نوافذ الحكايات ثم يتدحرجون على تلال بيضاء مرقطة بالسواد ليعودوا إلى ذاكرتي وقد حملت أجسادهم حروقاً مريعة. كان مشهداً مرعباً لم أحتمله فوجدتني أطفئ النار بيدي لأنقذ من لم تصل إليه.

الآن أتحسس ذلك الثقب الموجود في ذاكرتي وأتمنى لو أنه التأم قبل أن يعودوا إليها بآلامي التي ما فتئت تتجدد، وحروقهم التي لم أزل أعالجها دون جدوى، وعدا عن أني بت أعلم أن كتابة الألم أشد إيلاماً منه، فقد أراني العالقون في ذاكرتي المثقوبة الجانب المظلم فيّ.