كتاب ومقالات

السياحة الانتحارية !

فؤاد مصطفى عزب

ديفيد جودال، عالم النبات والبيئة، الأسترالي الجنسية، والبريطاني المولد، الذي عمل في أشهر الجامعات الأسترالية والبريطانية والأمريكية، وهو أول من طبق التحليل في علم البيئة الاجتماعي، وساهم في تأسيس مشروع تصحر بيومي التابع للبرنامج البيولوجي العالمي، وأصبح مديراً له، عضواً في أكثر من جمعية عالمية مرموقة، وكرم بجوائز محلية وعالمية، لا حصر لها، أدرج اسمه في قائمة يوم الشرف في أستراليا، وذلك لما قدمه للعلم والحضارة من خدمات عظيمة، كان عضواً في جمعيه «اكست» الدولية، لتشريع الموت الرحيم، وهو صاحب مقولة «يحق للشخص أن يختار متى يموت، عندما يكون الموت مناسباً» عاش حياة حافلة بالعلم والشعر والفن، خريطة إنسانية تعج بالنشاط الفكري والعلمي والمعرفي والحياتي، ثم توقف كل شيء في حياة «ديفيد جودال» رحل أفراد أسرته، الزوجة الأخيرة إلى مثواها الأخير، بينما الأبناء والأحفاد إلى «فرنسا» وأضحت الليالي تشبه بعضها والكلمات فقيرة في وصف الألم، تعددت الأمراض والوجع واحد، القلب يعرج، والحوائط على وشك الأنين، صار يجرب طرقاً غير تقليدية للترويح عن نفسه، وذلك بالنظر إلى يديه المرتعشتين، وذاك الخاتم الذي يلتف حول جلد إصبعه، لا يعبر عن شيء، غير أنه كان له علاقة بامرأة، سهرت حتى ساعات متأخرة من الليل في رعايته، ثم اختفت، يتذكر كيف كانت تنفض الغبار عن أثاث البيت، وتلمع الزجاج، وبالصوت العالي تكرر أغنية حميمة، تركت له لحنها كعقاب قاس، كلما أعاد الاستماع إليها ليلاً، بكى في منامه، وصحا في الصباح، وإصبعه تلامس موضع القلب، قضى «ديفيد جودال» أيامه الأخيرة، مثل ذئب شارد من الزمان، يمشي داخل نفسه، كموزع بريد يائس يفعل ما عليه لا أكثر، يوزع نفسه في نفس الأماكن هنا وهناك، غير أن «ديفيد» كان يوزع نفسه في الغرفة نفسها، يعيش في مربع ميت، يعيش تحت سلطة الوقت لا أكثر، وجلاد اسمه الألم، لا يرحم ولا يتعب، ولا يكل، وتجاوز الألم سطح الروح، للألم والعمر مهارات خاصة في قتل الأمل، يشطب الألم اسمك من قوائم الراحة، تفشل بعد عشرين مرة في مداواة جرح واحد، خاصة عندما تكون الجروح كثيرة، والثقوب عديدة، لا تغلق أبداً، في كل مساء يد خفية تسحبه من يده، حيث يجب أن يكون، كعمال المقاهي وهم يطوون في آخر السهرة، أسرار نهار طويل، يذهب إلى سريره، مثل موظفي المناجم الذين يستسلمون لساعات طويلة في الظلام. في أحد الأيام سقط «ديفيد» وهو يتأمل يديه الخاليتين وانهيار مفاصل الروح، سقط في شقته في أحد الأيام من شهر أبريل، وبقي كسلحفاة انقلبت على ظهرها ولم تجد من يعيدها لتقف على أرجلها، حتى عثر عليه عامل النظافة في المبنى وبعد يومين على سقوطه، عندها قرر وفي ليلة بلا صوت، وكمحارب أحيل للتقاعد، وكناسك اكتشف فجأة أن نهاراً كاملاً مر دون أن يفعل شيئاً سوى التحديق في الفراغ، هكذا قرر دون أن يرمش الواقع، دون أن ينهار العالم، أو حتى ترتطم الكواكب في حوادث سير، قرر أن يخرج من الحياة بصمت، أن يذهب لمن يسحب روحه عنه ويمضي إلى الحفرة الصغيرة التي تسمى قبراً، قد تكون تلك القطعة الحنان الوحيد التي أصبحت على مقاسه، قرر أن يسافر إلى «سويسرا» ليموت هناك لأن «الموت الرحيم» غير مسموح به في «أستراليا» مول موقع «gofundo» الإلكتروني، تكاليف سفره إلى «سويسرا» والبالغة 20 ألف دولار أمريكي، توقف في طريقه في «فرنسا» حتى يتمكن من وداع أولاده وأحفاده، ثم غادر إلى «سويسرا» حيث كان في انتظاره، طبيبان يشرفان على تنفيذ رغبته كان يستمع إلى سيمفونية بتهوفن التاسعة، وهو يضغط على زر تشغيل الجهاز الذي حقن بمادة «نيمبوتال» ولينهي بذلك عمره الذي ناهز الـ104 أعوام كانت وصيته، وسعوا القبر قليلاً فأنا أكره الأماكن الضيقة، وامنعوا الليالي الظلماء أن تمر فوق قبري، إن استطعتوا، فأنا أخشى الظلام، واختاروا أيادي لينة لتهيل علي التراب، واغرسوا فوق قبري نباتاً، شهد جنازات عديدة قبلي.. ولكنه لم يبك.. فأنا لا أحب البكاء، لكم أحمد الله على نعمة الإيمان، لكم أحمد الله على نعمة الإسلام، لقد آمنت بأن الموت معلق فوق رؤوسنا، لا يحدد موعد سقوطه إلا خالقه وخالقنا، ولكم تسمرنا أمام مقابر، وشاركنا في حمل جنازات، كل منا ينتظر دوره وقدره.. لا نهرب من القدر فهو حق، نحن مجرد غيمة ستعبر سريعاً، مسافرون بلا متاع، الألم وقسوة الحياة، هي ابتلاء وتخفيف ذنوب، كي نرحل كسلحفاة بلا ماض، مؤمنين بقوله عز وجل «ولا تقتلوا أنفسكم إن الله بكم رحيماً»..اللهم أحسن خاتمتنا وأمة محمد إنك غفور رحيم.

كاتب سعودي

Fouad5azab@gmail.com