كتاب ومقالات

دبلوماسية المسار الثاني: إيران والبحث عن المخارج

عبدالرحمن الجديع

تشير الممارسات الدبلوماسية إلى أنّ معالجة النزاعات بين الدول تتم عبر الوسائل السلمية، من خلال الدبلوماسية والتفاوض تفادياً للحروب، وقد أخذ المجتمع على عاتقه التأكيد على هذه الوسائل بعد مآسي الحربين العالميتين الأولى والثانية. كما أرسى، فضلاً عن ذلك، الأطر القانونية للوصول إلى التسويات، سواء أكان إبّان فترة عصبة الأمم، أو الأمم المتحدة حالياً، من خلال ما نصت عليه المادة ٣٣ من ميثاق الأمم المتحدة التي تحث الدول على حل النزاعات القائمة عن طريق المفاوضات، والتحقيق، والوساطة، والتوفيق، والتحكيم، والتسوية القضائية؛ سواء عبر اللجوء إلى الأمم المتحدة، أو الاستفادة من وسطاء إقليميين؛ للعمل على حلحلة تعقيدات النزاع، والوصول إلى فرص التفاوض واستتباب الأمن والسلام.

وتتمثل أبرز الوسائل السلمية، التي تعتمدها الدول في حل نزاعاتها، في استخدام الدبلوماسية الرسمية؛ وهي القناة الرسمية في العلاقات الثنائية؛ نظراً لأنّ الدبلوماسية التقليدية عادة ما تواجه رفضاً مباشراً من قبل أطراف النزاع، وتتعثر بسبب عدة معطيات كنوعية الخلاف وتعقيداته المتداخلة، وعدم توفر الثقة وارتباطه بالمواقف المبدئية المعلنة التي يصعب التنازل عنها، ما لم تكن الدول المعنية بالنزاع موقنة بأنّ النتيجة ستكون مرضية على الأقل وتنسجم مع أهداف سياستها الخارجية.

في ظل إيقاع العصر الجديد وطبيعته، من حيث التحولات المهمة والجوهرية التي تشهدها العلاقات الدولية، لجأت الدول إلى مسار آخر في التواصل، يعرف بدبلوماسية المسار الثاني Track Two Diplomacy وهو مسار يتميز بالسرية والكتمان، ويأخذ عادة صفة غير رسمية، وتتسم الحوارات في هذا المسار بإجرائها بعيدة عن الأنظار، ما يوفر سمة المرونة، ويتيح فرصة لمناقشة الأزمات والصراعات القائمة والمستعصية بأسلوب أكثر واقعية وشفافية. وعادة ما تسهم مراكز الأبحاث في دراسة أبعاد النزاع من مختلف جوانبه؛ بحيث تفضي في النهاية إلى بلورة قواسم مشتركة، أو تفاهمات يتم الاتفاق عليها وانتقال الحوار إلى القنوات الرسمية والمفاوضات العلنية.

استفادت إيران من استخدام دبلوماسية المسار الثاني، من خلال الوسيط للتفاوض مع المجتمع الدولي والتوصل إلى الاتفاق النووي في يوليو 2015 في فيينا، وهو ما عرف اصطلاحاً بـ(JCPOA). وبالرغم من هذا الاتفاق، أدى الصلف الإيراني، وعدم التزام طهران وانتهاكاتها المتكررة لبنود الاتفاق، إلى قيام الإدارة الأمريكية الحالية بالانسحاب من الاتفاق النووي في مايو 2018، مؤكدة أنّ الاتفاق يعاني من الكثير من الفجوات التي ينبغي النظر فيها بعمق.

وأمام هذا الموقف، أخذت إيران تستدرج الغضب الأمريكي، من خلال محتوى التجاذبات السياسية والممارسات العدائية والاستفزازات، وكذلك سياسة التهور والاستهتار بالقانون الدولي، والعبث بسيادة الدول، وشن الهجمات، عبر أذرع مليشياتها، على الدول المجاورة، حتى وصلت الرعونة إلى استهداف السفارة الأمريكية في بغداد، ما نتج عنه مقتل مواطن أمريكي، وهو الأمر الذي دفع الولايات المتحدة لضرب هذه الأذرع الإرهابية في العراق، ومن ثم القيام، في 3 يناير 2020، بتصفية مهندس النفوذ الإيراني الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس المشرف على نشر سيطرة نظام الولي الفقيه ونفوذه في الإقليم.

لقد استفاقت إيران على اللطمات «الترمباوية» المتكررة التي أدت حتماً إلى المزيد من الارتباك في أوساط صانعي القرار الإيراني، مما أفضى إلى انتهاج سياسة أكثر حذراً، والبحث عن أطر أخرى للتواصل مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، وإدراك أنّ موضوع تصفية سليماني والرد عليه قد أغلق عند هذا الحد.

إنّ توجه إيران للتواصل مجدداً لا يُنهي التوتر أو العداء السياسي مع أمريكا، بل هو نتيجة لتغير الظروف وإدراك طهران مدى جدية الجانب الأمريكي، خصوصاً بالنظر إلى تواضع قواتها الذاتية التي لا تستطيع الوقوف أمام فعالية القوة العسكرية الأمريكية الجبارة وقدرتها الهائلة على إلحاق الدمار والأذى، وإعادة إيران إلى الوراء سنوات بل عقوداً، وهو الأمر الذي لا قِبل لطهران به.

* كاتب سعودي