شهاب مع الشيخ جابر الأحمد في أواخر الخمسينيات.
شهاب مع الشيخ جابر الأحمد في أواخر الخمسينيات.
شهاب مرافقاً الشيخ جابر الأحمد في إحدى زياراته إلى بريطانيا.
شهاب مرافقاً الشيخ جابر الأحمد في إحدى زياراته إلى بريطانيا.
شهاب في أواخر عمره مستنداً على عكازه بمساعدة خادمته الهندية.
شهاب في أواخر عمره مستنداً على عكازه بمساعدة خادمته الهندية.




فخري أحمد شهاب البصري (1921 ــ 2022).
فخري أحمد شهاب البصري (1921 ــ 2022).




الشيخ جابر الأحمد وبجانبه فيصل المزيدي 
الذي اقترح عليه الاستعانة بفخري شهاب.
الشيخ جابر الأحمد وبجانبه فيصل المزيدي الذي اقترح عليه الاستعانة بفخري شهاب.
-A +A
بقلم: د. عبدالله المدني abu_taymour@
في مقابلة مع جريدة الزمان العراقية بتاريخ 19 ديسمبر 2002، قال فخري شهاب، الذي كان مستشاراً في الدائرة المالية لحكومة الكويت، إنه حينما التقى للمرة الأولى برئيس الدائرة الشيخ جابر الأحمد الصباح سنة 1959، شعر بأن الرجل ولد ليكون قائد دولة. كان ذلك قبل سنوات من تولي سموه الحكم أميراً لدولة الكويت بعد وفاة الشيخ صباح السالم الصباح سنة 1977.

فما هي قصة هذا الرجل؟ وكيف ارتبط بالشيخ جابر وعمل تحت إمرته؟ وما الأدوار التي لعبها في الكويت حتى صار اسماً خالداً في تاريخها الاقتصادي والمالي؟


يعد الدكتور فخري أحمد شهاب من قامات العراق الاقتصادية الكبيرة، لكن وطنه العراقي غير المستقر لم يستفد من علمه ونبوغه وخبرته إلا لماماً، فيما استفادت الكويت، قبل استقلالها وبعده، من فلسفته الاقتصادية في تحقيق طفرة تنموية شملت البشر والحجر وانعكست إيجاباً على رفاهية المجتمع حاضراً ومستقبلاً.

ولد فخري شهاب في البصرة بأقصى جنوب العراق في يناير من عام 1921، ونشأ وأتم مراحل تعليمه الأساسية بها. وبعد تخرجه من الثانوية في ثلاثينيات القرن العشرين قرر أن يدرس القانون ليصبح محامياً أو قاضياً، ولهذا الغرض انتقل إلى بغداد والتحق فيها عام 1939 بكلية القانون التابعة لجامعة بغداد، التي تعد من أعرق كليات الجامعة وأقدمها، بل تتباهى بأسبقيتها على العديد من كليات الحقوق في الجامعات العربية والأجنبية كونها تأسست سنة 1908.

رثاء جاسم الصقر

ممن زاملهم في كليته آنذاك «جاسم حمد يوسف الصقر» (1918 ــ 2006) الذي سيصبح لاحقاً من رجال الاقتصاد والسياسة والصحافة في بلده الكويت. دعونا نقرأ ما كتبه شهاب بنفسه في رثاء الصقر وقت وفاته سنة 2006، عن ظروف تعارفهما وافتراقهما «بدأت صداقتنا واستمرت لسبعة وستين عاماً. تعارفنا وأحببنا بعضنا بعضاً حين التقينا في بدء السنة الدراسية بكلية الحقوق في بغداد قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية بأيام. وآلف بيننا اشتراكنا في حب بعض المواد في برامج الدراسة وتفضيل بعض الأساتذة على سواهم. واستمرت هذه الصداقة بعد تخرجنا عام 1943 وفرقتنا الأيام طويلاً، سافرت أنا فيها إلى الخارج وعاد هو إلى البصرة التي اتخذ منها مقراً له وأسهم في حياتها الاجتماعية والتجارية إلى حد ملحوظ، والتف حوله كثير من الأصدقاء والمعجبين. فرقتنا السنون ثم جمعتنا في الكويت بعد مضي ربع قرن على بدء صداقتنا. واستمرت هذه العلاقة وكنا في حوار دائم عن الأحداث الطارئة على مسرح السياسة العربية والعالمية، واتفقنا في كثير من الأمور والتخريجات واختلفنا في كثير غيرها، واشتركنا في الأعمال التجارية واختلفنا أيضاً، واجتمعنا وعملنا سوية حين أسس صندوق الكويت للتنمية الاقتصادية العربية. وكان هو وأنا معه أول من جلس ليحسم أول طلب تقدم به الأردن بعد يوم من تكوين الصندوق، ولم يكن للصندوق موظفون ولا سكرتارية ولا إدارة يومئذ. وطوال اتصالاتنا وعملنا واتفاقنا واختلافنا فإن صداقتنا ومحبة كل منا للآخر، واحترامنا لبعضنا البعض، لم تتغير بتغير الظروف والأحوال».

شد الرحال إلى مصر

وبعد اتمامه سنوات دراسته الجامعية في بغداد عام 1943، شعر شهاب برغبة جامحة في تلقي المزيد من العلوم والمعارف في مجال تخصصه، فشد الرحال إلى مصر سنة 1945 لنيل درجة الماجستير في القانون من جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)، لكن ما حدث هو أنه أثناء وجوده في مصر أحس بميل للتخصص في علم الاقتصاد، وعليه قرر أن يكون الاقتصاد هو ركيزة دراساته العليا، وحصل بالفعل على درجة الماجستير فيه.

ومرة أخرى، نجد أن شغفه بالتحصيل العلمي العالي يدفعه لمواصلة الدراسة لنيل درجة الدكتوراه في الاقتصاد، بدليل انتقاله إلى إنجلترا لهذا الغرض، حيث التحق هناك بجامعة أكسفورد العريقة التي لم تمنحه شهادة الدكتوراه بامتياز فحسب وإنما وظفته أيضاً مدرساً في كلية الاقتصاد التابعة لها، ليدخل التاريخ كأول عراقي يدرس بهذه الجامعة المرموقة عالمياً ويشتغل بالتدرس فيها، بفضل جهده العلمي الدؤوب وقدرته الفذة على إبهار الآخرين بشخصه وثقافته. هذا علماً بأن توظيفه في أكسفورد فتح له الباب للتدريس في جامعات أجنبية مرموقة أخرى مثل جامعة برنستون الأمريكية.

الاستقرار في لندن

وهكذا استقر الرجل في لندن وتزوج فيها من سيدة بريطانية (توفيت منذ سنوات، وكانت حانية عليه وقائمة على كل أعبائه المعيشية)، أنجب منها ابنتين (إحداهما تعيش في بريطانيا والأخرى تقيم بالولايات المتحدة).

في هذه الفترة، وتحديداً أواخر خمسينيات القرن العشرين، كانت الكويت قد تحولت إلى ورشة عمل وإنماء بفضل مداخيلها النفطية الهائلة، وكان الشيخ جابر الأحمد الجابر يتولى حينها دائرة المالية المعنية بالتخطيط الاقتصادي والإنفاق على المشاريع التنموية، فاقترح عليه أحد مساعديه وهو الخبير النفطي الكويتي فيصل منصور المزيدي الاستعانة بالخبير المالي العراقي المقيم في بريطانيا فخري شهاب، صاحب الخبرة العريقة والشهادات العالية في الأمور الاقتصادية والمالية، حيث كان اسم الرجل متداولاً حينها في العراق وخارجه كأحد العباقرة العرب في مجالي الاقتصاد والمال.

الانتقال للكويت

وعلى الرغم من حياته الهانئة في بريطانيا ورضاه عن عمله الأكاديمي في أكسفورد، إلا أنه آثر أن يلبي نداء البلد العربي المجاور لمسقط رأسه طالما أن الأخير سعى لطلب خبرته. وعليه انتقل من بريطانيا إلى الكويت ليعمل مستشاراً للشيخ جابر الأحمد منذ أواخر الخمسينيات وحتى وفاة سموه سنة 2006. وخلال هذه الفترة الطويلة من حياته توثقت علاقته بكبار المسؤولين الكويتيين وفي مقدمتهم، بطبيعة الحال، الشيخ جابر الذي استصدر أمراً بمنحه الجنسية الكويتية سنة 1959 فأصبح حاملاً للجنسيتين العراقية والكويتية.

وبصفته الوظيفية الاستشارية، وعضويته في مجلس النقد الكويتي (تأسس بمرسوم أميري عام 1960 واستبدل في عام 1968 ببنك الكويت المركزي)، وعضويته في فريق العمل الاقتصادي المحيط بالشيخ جابر، وبالتعاون مع زملائه، راح شهاب يعطي الكويت عصارة علمه وخبرته، مقترحاً العديد من الاقتراحات المتفقة مع فلسفته الاقتصادية. ولحسن حظه وحظ الكويت تم تبنّي معظم أو كل مقترحاته، وعلى رأسها ضرورة استغلال الفوائض المالية للدولة استغلالاً صحيحاً.

صندوق الأجيال

فهو مثلاً من رأى أن الكويت تفتقر للموارد الطبيعية وليس عندها سوى مورد وحيد (النفط) قابل للنضوب عاجلاً أو آجلاً، وبالتالي اقترح ضرورة الإسراع في استخدام عائدات النفط في ضروب التنمية المختلفة وتطوير البنى التحتية الطبيعية والبشرية، لخلق مصادر مساندة للدخل والانفاق المتأتّي من النفط.

وهو من اقترح ضرورة استقطاع 10% من الدخل الجاري لتكوين صندوق احتياطي من المدخرات للأجيال القادمة، من منطلق حق الأخيرة في ثروات بلدها، وأيضاً لتجنب أي معاناة في أوقات الشدائد والمحن والعسر المالي. وهو صاحب فكرة أن تستثمر الحكومة بسخاء في التعليم من خلال ابتعاث الكويتيين من خريجي الثانوية للدراسة في الخارج مع تغطية كل نفقاتهم ومستلزماتهم الأساسية دون الكمالية والترفيهية.

وهو من دعا إلى أن تقوم الحكومة الكويتية بإنشاء صندوق كويتي للتنمية الاقتصادية من أجل أن يكون للكويت دور إقليمي في تطوير دول المنطقة الأقل دخلاً والدول العربية النامية الأخرى، وهو المقترح الذي طبقته الكويت بعد استقلالها عام 1961 حينما أصدر المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح مرسوماً بتأسيس «صندوق التنمية الكويتي» وتعيين مجلس إدارته من الشيخ جابر الأحمد رئيساً وعبدالعزيز البحر مديراً عاماً وكل من جاسم الصقر وفيصل المزيدي ومساعد الصالح وأحمد سيد عمر أعضاء (ترأسه فيما بعد خريج هارفارد عبداللطيف يوسف الحمد). والجدير بالذكر أن هذا الصندوق، الذي توسعت مهماته لاحقاً وصار شبيهاً بالبنك الدولي، أحدث تغييراً مشهوداً في حياة الشعوب العربية، وجذب أصحاب المواهب، ووظف ذوي الثقافة والخبرة الرفيعة، مكوناً منهم فرقاً للوقوف على الاحتياجات التنموية والمشاريع الملحّة للدول الأخرى.

حلقة وصل اقتصادية

إضافة إلى ما سبق، كان شهاب حلقة وصل اقتصادية بين الكويت والعالم الخارجي. ومن موقعه الوظيفي ساهم في فترة الستينيات والسبعينيات في تأسيس شركات مالية مختلفة من تلك التي لعبت دوراً حيوياً في ازدهار الكويت ورخائها. كما كان قبل ذلك وراء فكرة تأسيس المجلس الأعلى للتخطيط، الذي أبصر النور في عام 1962 بموجب المرسوم الأميري رقم 56 كبديل لمجلس الإنشاء الذي انتهت مهماته وأسدل الستار عليه في عام 1961، بل شارك شهاب شخصياً في تحديد طبيعة أعمال مجلس التخطيط ووظائفه واختصاصاته، في أعقاب توصية تقدمت بها بعثة من البنك الدولي للإنشاء والتعمير كانت قد زارت الكويت برئاسة الخبير العالمي «ماكدير مود» لوضع أول تقرير اقتصادي علمي حول المسار الاقتصادي للبلاد، علماً بأن شهاب هو من اقترح على وزير المالية الشيخ جابر الأحمد استقدام البعثة الدولية لوضع ذلك التقرير.

على أن أكبر عمل أنجزه لصالح الكويت في سنواته الكويتية هو هندسته عملية تحويل نظام النقد القديم من الروبية الهندية (عملة ما قبل الاستقلال) إلى نظام النقد الحالي المتمثل في الدينار الكويتي، الذي تمّ اعتماده عملة وطنية منذ عام 1960. ولهذا حقّ له أن يُلقّب «عرّاب الدينار الكويتي»، وأن يصبح هذا اللقب مرادفاً لاسمه، إلى جانب ألقاب أخرى مثل «مهندس الاقتصاد الكويتي» و«راهب الاقتصاد».

ظل شهاب مقيماً في الكويت، يعيش بمفرده، رافضاً كل محاولات ابنتيه للالتحاق بهما والإقامة معهما في الغرب، ومفضلاً الانعزال والوحدة مع الاستمرار في تقديم استشاراته الاقتصادية والمالية لمن يريد، والحرص على رفد الصحافتين العربية والأجنبية والدوريات الأكاديمية الرصينة بمقالات سياسية واقتصادية باللغات الثلاث التي أجادها (العربية والإنجليزية والفرنسية). وكان سميره في هذه الأثناء الكتاب والمذياع والأغاني الأجنبية الراقية والموسيقى الكلاسيكية، وهواية كتابة الأشعار الصوفية.

أمراض الشيخوخة

وفي سنواته الأخيرة ــ وبالرغم من اهتمامه بصحته وتجنبه أكل اللحوم بكافة أنواعها وحرصه على أخذ قسط طويل من النوم يومياً ــ عانى من أمراض الشيخوخة، فضعف سمعه وبصره وقلت حركته، ما اضطر معه للاستعانة بخدمات شاب هندي وظفه كي يحضر يومياً إلى داره من أجل أن يقرأ عليه آخر الإصدارات والطازج من أخبار الصحافة العالمية. كما وظف سيدتين من الجنسية الهندية كي تتناوبا على رعايته والاهتمام بأكله وهندامه، فأدتا واجباتهما خير أداء، خصوصاً في ظل معاملة شهاب لهما برقي وتحضر وحنان أبوي.

وظل شهاب على هذا المنوال، قنوعاً لا يشتكي من أي معاناة صحية خطرة، وسعيداً بالبعض القليل ممن كانوا يسألون عنه من معارفه الباقين على قيد الحياة أو ممن كانوا يترددون عليه بين فترة وأخرى (ومنهم كويتيون كانوا يأتونه كل عام للاحتفال بعيد ميلاده، حباً ووفاء وتقديراً لما قدمه للكويت).

لكنه تعرض فجأة في مساء يوم الثلاثاء الحادي عشر من أكتوبر 2022 لأزمة صحية مفاجئة فارق على إثرها الحياة عن 101 عام. وكان من الطبيعي، في حالة شخصية مثله، أن تشتعل مواقع التواصل الاجتماعي بخبر رحيله، حزناً، ورثاء وذكراً لمآثره ونبل أخلاقه، ودعاء بأن يتغمده المولى بواسع رحمته. فقد نعته مثلا سعاد فهد المعجل، الكاتبة بجريدة القبس الكويتية والأستاذة بجامعة الكويت سابقاً قائلة «انتقل إلى العالم الآخر وبسلام الدكتور فخري شهاب. كنا قد احتفلنا معه في فبراير الماضي بعيد ميلاده الواحد بعد المئة. يرحلون ويتركون فراغاً لا يملؤه غيرهم. الراحل رجل اقتصاد بامتياز وكان المسؤول عن تحويل العملة الكويتية من الروبية إلى الدينار».

مكانته عند أمراء وشيوخ الكويت

وفي دلالة على مكانته عند أمراء وشيوخ الكويت، التي أحبها وأخلص لها ورفض مغادرتها، واعتزازاً منهم بما قدمه لبلدهم من جليل الأعمال، بعث سمو أمير الكويت الشيخ نواف الأحمد الجابر برقية تعزية إلى أسرة الدكتور شهاب، أعرب فيها عن خالص تعازيه وصادق مواساته بوفاة فقيدهم، مستذكراً سموه مسيرة حياته الحافلة بالعطاء وإسهاماته في وضع أطر النظام الاقتصادي في البلاد.

قبل وفاته بعام، وتحديداً في الثالث من يناير 2021، زاره موفد جريدة «الرأي» الكويتية في صومعته بمنطقة الشعب البحري لإجراء حوار معه والاطلاع على أوضاعه. وكان مما جاء في تقرير الجريدة، أن شهاب أهدى لجامعة أكسفورد التي منحته الدكتوراه مجموعته النادرة من التحف والسجاد الفارسي وفاء وعرفاناً لفضلها عليه، وأن صاحبنا يسهر آناء الليل، ويصحو أطراف النهار، ولا يبدأ يومه إلا في السادسة مساءً، وأن الكويت بالنسبة له متميزة عن كل دول الشرق الأوسط الأخرى في أشياء كثيرة حاول إبرازها من خلال مقالاته باللغة الإنجليزية. كما أخبرتنا الجريدة، أن شهاب باغت موفدها في نهاية الحوار بسؤال «لماذا لم تسألوني عن جرائمي؟»، ولما استفسر منه عن جرائمه كانت إجابته «كثيرة، ومنها أني كنت كثير الكذب في سنوات طفولتي».

وأخيراً، فإن مما يجدر بنا ذكره هو أن قائمة الوظائف التي تقلدها الراحل اشتملت ــ عدا ما ذكرناه آنفاً ــ على عمله مستشاراً لأكثر من جهة. فقد عمل مستشاراً اقتصادياً لسكرتارية هيئة الأمم المتحدة، ومستشاراً اقتصادياً ومالياً لمجلس الوزراء العراقي، وللحكومة العراقية، ولحكومة بنما، ولشركة «متسوي» اليابانية في طوكيو ولندن، التي تعد واحدة من أكبر شركات التجارة العامة في اليابان.

أبرز الأعمال التي شارك فيها:

مهندس عملية تحويل العملة من الروبية إلى الدينار

وراء فكرة تأسيس المجلس الأعلى للتخطيط

تكوين صندوق احتياطي من المدخرات للأجيال