-A +A
إعداد: محمد المشرعي mmashraee2@
الشعر عند العرب لم يكن قولاً عابراً، بل كان فضاءً واسعاً يعبّر فيه العربيّ عن أحاسيسه فيرسمها في لوحة رسامٍ، كأن من يقرأها أو يسمع بها، يعيش تفاصيلها، تملؤها الحكمة الأخاذة، والأخلاق السامية الرفيعة، أنغامٌ موسيقيّةٌ تطرب المسامع، وترق لها الأفئدة، متوازنة بلا خلل، ممتعة بلا ملل، يعتز به أهله ويفتخرون بكل ما فيه، وإن شابته بعض الشوائب لا تعكر صفوه الجميل. جميل بن معمر العذري القضاعي، نُسب لقبيلة عذرة وهي قبيلة مضرية قريشية، ولد في الأعوام الأخيرة من خلافة عثمان بن عفان. وجميل من شعراء العصر الأموي، وصف بحسن الخلق؛ فكان كريم النفس، مرهف الإحساس، رقيق المشاعر. ارتبط شعره ببثينة وهي من نفس قبيلة جميل، فكلاهما كانا من عذرة، وقيل بأنها ابنة عمه، أحبها وهو غلام صغير وبقي يُحبها إلى أن كبر، وطلبها من أبيها زوجة له، لكن أباها قام بتزويجها من شخص آخر، على الرغم من ذلك استمر جميل في حبه لبثينة وزاد من كتابة الشعر، إلى أن مات وهو يبكي فراقها وينشد وصالها، وكتب فيها الكثير من القصائد ومنها هذه الأبيات:

لقد أورَثَتْ قلبـي وكان مصحـحـاً


بثينـةُ صدغاً يـوم طار رداؤهـا

إذ خَطَرَتْ من ذكر بـثـنـة خطرةٌ

عصتني شؤون العين فانهلّ ماؤها

فإن لم أزرها عادني الشوق والهوى

وعاود قلـبـي من بثينـة داؤها

وكيف بنفـس أنتِ هيّجتِ سقمهـا

ويمنع منها يـا بثيـن شفـاؤهـا

لقد كنت أرجو أن تجودي بنائل

فأخلف نفسي من جداك رجاؤهـا

فلو أن نفسـي يا بثيـن تطيعـني

لقد طال عنكم صبرهـا وعزاؤهـا

ولكن عصتني واستبدّت بأمرهـا

فأنتِ هـواهـا يا بثين وشاؤها

فأحيي -هداك الله- نفساً مريضةً

طويـلاً بكم تهْيامُها وعـنـاؤهـا

وكم وَعَدَتْنا من مواعد لو وفـت

بوأيٍ- فلم تنجَزْ قليلٍ غناؤهـا

وكم لي عليها من ديونٍ كثيرةٍ

طويلٍ تقاضيهـا بطيءٍ قضاؤهـا

تجود به في النّوم غير معرّدٍ

ويحزن أيقاظـاً عليها عطاؤهـا