نادين البدير
نادين البدير
-A +A
نادين البدير nadinealbdear@
أثناء نشأتي صغت تعاريف مختلفة للوطن.

كنت أرسم وطناً يوافق مزاجي وأهوائي، ما أحب وما أكره. وطناً يشبهني كثيراً. بل يتطابق وتفاصيلي.


تعجبني تضاريس وجغرافيا في بقاع أرضية عديدة فأجمعها وأضعها في قالب الوطن المتخيل.

أتخيل بنايات وأرصفة، مقاهي وملاهي، جامعات ومكتبات، أتخيل مجتمعات بشرية تفكر مثلي. تفرح مثلي، تغضب حين أغضب وتشاركني الرغبات. وأضعها جميعها في القالب.

كطفل منحوه تجربة اختيار أبويه.

«وإن لم تجد نفسك في أرضك الأصلية فالأرض كلها وطنك» هذه العبارة التي صغتها في مراهقتي واتخذتها دستوراً.

و«أينما أجد أحلامي أجد وطني».

وحين كبرت، جاءتني الفرصة، بل الفرص. إذ منحني أب، فريد ونادر في تعامله كشرقي مع ابنته، حرية مطلقة أكون بها المسؤولة الأولى والوحيدة عن كافة تصرفاتي.

عندها وقفت مترددة. لأن الحرية ليست كما يفهمها البعض، الفوضى أبعد ما تكون عن الحرية، ولأنني أصبحت حرة ومسؤولة أعدت النظر بخيالاتي.

ترددت. إذ كيف أختار الغربة ؟ كيف يختار المرء غربته بمحض إرادته ؟

لست مواطنة عربية سرقوا منها أرضها فاضطرت لأن تجوب الأرض بحثاً عن وطن بديل.

ولست تائهة بلا جذور.

ولنفرض أنني وجدت المنفى المتخيل.

هل تكفيك جزيرة معزولة ليس بها سواك، تصممها وتضع بها قوانينك وتمارس بها ما شئت من تصرفات ؟

لأي قضية سأعارك وأحارب هناك. وكيف أعيش غريبة ؟ لا أطيق العيش غريبة.

في تلك السنوات التي غلب بها التشدد، أردت أرضاً أمشي عليها حرة.

لكن هل يكون لأحلامك معنى حين تتحقق بعيداً عن أرضك ؟

هل يكون للجمال معنى حين يأتي ناقصاً ؟

وفي بلاد الغربة. مع من سأرقص فرحاً بحريتي ؟ الغربة ستكون أكبر قيد على الحرية.

أما ما حدث فالعكس تماماً.

قبل أن تستهويني هذه المهنة وأقع في غرامها، اخترت الكتابة والإعلام لهدف واضح. كان هدفي قضايا السعوديات.

اخترت مجالاً ملتصقاً بوطني، واخترت عملاً إعلامياً أحكي به عن جمال وطني وهموم وطني.

صحيح أنني أكره التفكير الجماعي وأعشق الفردانية والاستقلالية. لكني أعشق أيضاً مجتمعي بكل مدائحه وحسناته وقبحه وعيوبه.

فأين أجد بديلاً له ؟ أو بديلاً لهذه الأرض.. أريد تركيبة مطابقة.

مررت بعشرات الأماكن الجميلة ومساحات لا تحصى من الطبيعة الخلابة، لكن أياً منها لم يرتقِ لمرتبة الوطن.

مع الوقت والسنوات لم أتمكن من الانفصال عن أرضي. مع كل مقال وكل حلقة تلفزيونية. أي بلد أسافر إليه. أي مؤتمر وأي زاوية أقف عندها أحكي عن بلدي، أي لقاءات أكون طرفاً فيها أوجهها لتتمحور في النهاية حول بلدي.

حتى جاء اليوم الحلم الذي تحققت فيه كثيراً من الأمنيات.

ما أشعر به الآن أصفه لابنتي: إن أسعد الأيام أن تعيشي في عز وطنك وبيدك الحرية. اكبري هنا واستمتعي بعناصر النهضة وشاركي بها أيضاً.

ما هو الوطن:

أهو المكان الذي يستوعب طموحاتك وأحلامك ؟ ويستوعب اختلافك وتفردك ؟

أو هي الأرض التي تجمعك بأبنائها جوامع وروابط مختلفة ؟

أهي أرض أجدادك ؟ البعض يشترط رابط اللغة أو المذهب أو العقيدة. لكن الوطن بالنسبة لي ارتباط روحي يتعدى المذهب واللغة، يتعدى كل الشروط التي يرسمها الفلاسفة وعلماء السياسة في علاقتك مع بلادك.

فلماذا تسكنني مدنها ؟

ويختلط طيف خارطتها مع أي فكرة تلمع برأسي، أي بلد جديد، أي طريق أسلكه للمرة الأولى. يختلط بشبكية عيني فلا أتمكن من رؤية أي صورة أو فكرة إلا من خلال الطيف.

دائماً أتخيل أن لوطني عينين.

من رماله وزيته وبحاره تتشكل عينان بدويتان واسعتان تمتدان عرضاً على سطح القشرة الأرضية. تبدأ زاويتهما الداخلية من منتصف الصحراء وتتسعان لتغطيا بقية المساحات، وينتهي طرف كل رمش منهما عند الماء، مع انتهاء الحدود السياسية والجغرافية للسعودية.

تلك العينين.. ترقباني أينما حللت ورحلت. وسوادهما المتفحم يتحرك يمنة ويسرة بحسب موقعي في الأرض..

هذه باختصار شفرة العلاقة مع وطني. عينان. أستمد منهما القوة والوجود والعزة والرفعة.

ذات مرة كتبوا عني (المرأة الحديدية في السعودية) هل كنت سأوصف بتلك القوة لو أنني لم أكن أنتمي لهذا المكان ؟ وأي أرض أخرى بإمكانها منحي تلك القوة ؟

يوم وطني سعيد.

سلام لهذه الأرض في يومها الوطني. صار تاريخاً ضمن مجموعة أفراح وطنية، ومشاريع لا تنتهي. وعمل جبار على قدم وساق لمسابقة الحضارة.

ويمر اليوم الوطني واتفاقيات السلام تنهال على خليج السلام العربي.

فسلام لك يا وطني. يا فخري.