جاسم عساكر
جاسم عساكر
-A +A
عبدالله السلمان (الأحساء) WAW114@
بذاكرة ممزوجة برائحة الشعر والبلاغة والصور الجملية، يستعيد الشاعر السعودي جاسم عساكر، صيام شهر رمضان أيام الطفولة، وما بعدها بقليل، حتى إذا ما لاح لهم هلال الشهر متكئاً على نخلة هجرية، عمت الفرحة في كل الأمكنة التي كانت في محيط الشاعر، هي كل شيء في الدنيا، ولا جغرافيا بعدها ولا قبلها. واستحضر جاسم ذاكرته في تلك الأزمة الرمضانية خلال حديثه لـ«عكاظ» قائلا: إن الحكاية في شهر رمضان تبدأ من لحظة البحث عن هلال مخفي ومن وجود سباق حميمي في الحارات الصغيرة يعقده الأهالي ابتهاجاً بالعثور عليه، وذلك بتعليق الزينة وإشعال الفوانيس التي تضيء المكان كما تضيء الفرحةُ في النفوس. يتذكر عساكر لحظة العطش التي مر بها وهو صغير يتدرب على الصوم، فيقول: لا شيء غير الشعور بلذة البدايات يُطفئ لهيب الصيف الحارق، والتواري أحياناً لارتشاف قطرة ماء باردة، بعيداً عن أعين الرقباء، ثم الخروج لمتابعة مشهد الأطباق الطائرة من دار إلى دار، على أكف الأطفال الذين يعملون مندوبين لأمهاتهم وأعني بها أطباق الأكل الساخنة ذات الروائح الشهية، التي يتبادلها الجيران فيصنعون منها مهرجاناً أهلياً عفوياً لصلة الرحم، دون أي تكلف أو عناء. وما إن يهطل صوت الطهر من المئذنة القريبة على سطح البيوتات المجاورة، حتى تسير خطاي على الدرب الذي لا يقود سوى إلى الجنة، أو هكذا أسمي المسجد وأنا في طريقي إليه، منتشياً وكأنني ألمس السماء الرحيمة براحة كفي، حتى تتهلل النفس بعد الفريضة فرحاً باجتماع الأهل على المائدة التي لا يُقنعُ أمي سوى أن أبدأها بالتمر تيمُّناً بالسنة النبوية الشريفة، مصحوبة بصوت الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- يفيض روحانية وطهراً، من بين جنبات الشاشة الصغيرة.

شيخ الحارة يرتلنا وحياً ليتحلق الآباء من الجيران بعدها إنصاتاً لصوت الذكر الحكيم يرتله شيخ الحارة في مجلسنا الذي أراه كل العالم حين يضمهم (إخوانا على سرر متقابلين) والذين يجرّون روحي بخيط الحديث إلى دهاليز شتّى، لا يعنيني منها سوى صوت (حَجّي ناصر)، وهو يردد: (الشياطين مربوطة في هذا الشهر) فيقضي على نوبة الهلع التي تنتابني وأنا أجوز الدروب المظلمة، فأحمل هذه البشارة إلى رفاقي حينما نلتقي على ضفاف السهر الطويل بعد أن نتحدث عن سنن الصوم، وهل شرب الماء مع صوت الأذان جائز، و(هل بلع الريق يفطّر)؟


الألعاب الشعبية طموحنا وربما غفلنا لحظة، فانساقت خطانا خلف (لعبة الغميمة) إلى وقت متأخر من الليل، حيث يداهمنا صوت قارع الطبل المسحراتي أو أبو طبيلة الذي يرش الدروب تهليلا وتسبيحاً، فيغسل أرواحنا ونحن نحلق سرباً من الأطيار من خلفه، وكأننا نرتفع إلى الله على أصداء دعائه.

لأعود بعدها خفيفاً إلى سطح الدار، وأتمدد للراحة قليلاً على فراشي البارد مكشوفاً تحت سماء مكشوفة ترصعها النجوم التي أشعر بها تحدثني وأتحسس قربها مني أكثر من قرب أختي فاطمة التي تنأى مسافة مترين لا أكثر، وهي تعلق أمنيات العمر هائمة على حبل الغسيل.

وهنا أمي الجنة التي تحت أقدامها الجنة، فما لبثت تعجن أرغفة الدعاء وتطعم روحي، وأما أبي الذي جعل ورود الفضيلة تتفتح داخلي منذ صباي، فمنذ سبعة عشر عاماً تخلى ولم أتخلّ، فما زلتُ منذ سبعة عشر عاماً أحجز جواري كل يوم مقعداً فارغاً على مائدة الإفطار.