-A +A
متعب العواد (حائل)Motabalawwd@
تواصل هيئة التراث كل يوم اكتشاف مواقع أثرية متنوعة، إذ تزخر السعودية بموروث حضاري وثقافي وإرث تاريخي يؤكد دورها في الحضارة الإنسانية؛ وتقاطعت على أرضها كثير من حضارات العالم وعملت الهيئة وفق منهجيـة تتوافق مع أفضل التجارب العالمية، واقتراح الأنظمة والسياسات والتوجهات الإرشادية الخاصة بالمواقع التاريخية والأثرية والتراث العمراني والمتاحف، والحماية والترميم، والتوثيق وإدارة المواقع والمقتنيات، وذلك بهدف إخراج هذا التراث الوطني من باطن الأرض ليصبح واقعاً معاشاً يستفيد منه الباحثون والمتخصصون؛ لمعرفة دور المملكة في الحضارة الإنسانية. وأنجزت هيئة التراث الكثير في التوعية والتعريف بالآثار، كما حققت كثيرا من الاكتشافات الأثرية المهمة التي أكدت العمق التاريخي والحضاري للمملكة.

البحث تحت الماء


تعمل هيئة التراث على برامج التنقيب في المواقع الأثرية المهمة من خلال المسح الأثري الشامل بهدف التحديد، والبحث، والتوثيق، والتسجيل، والحماية، وإيضاح الإمكانات التي تتمتع بها المواقع لحصر كل مواقع التراث الوطني، كما تعمل في برنامج الآثار الغارقة، الذي يهدف إلى تحديد المواقع الأثرية الموجودة تحت الماء وتوثيقها؛ وذلك لإعـداد حصر شامل للمواقع التي يمكن استعادتها والاستفادة منها للحماية والبحث، ونشر العلم والمعرفة من خلال المطبوعات والمعارض التعليمية والمتاحف والتطبيقات الرقمية وبرنامج الدراسات الأثرية والتراثية المتخصصة، ويمكن أن تضم أبحاثاً خارج المواقع كالدراسات المتكاملة، والثقافات الأثرية، وأماكن توزيعها، وستقدم مثل هذه الدراسات فهماً كبيراً يغذي المعرفة العامة المتوافرة في المتاحف والمدارس.

تسجيل وتوثيق للمواقع الآثريةكشفت هيئة التراث، خلال شهرين، تسجيل وتوثيق 168 موقعاً أثرياً جديداً في مختلف المناطق، وكان لمنطقة حائل النصيب الأكبر بـ91 موقعاً، تليها تبوك بـ22، ثم الحدود الشمالية 15، والجوف 10 مواقع، والمدينة المنورة 9، والقصيم 8، وعسير 5، والرياض 4، والباحة 3، ومنطقة مكة المكرمة موقع واحد، ليصل إجمالي عدد المواقع المسجلة في السجل الوطني للآثار حتى الآن 8598 موقعاً أثرياً في مختلف أنحاء المملكة.

النسيم.. إنسان العصر الأشولي

كشفت مجلة Nature Scientific Reports تحت عنوان «انتشار الإنسان في العصر الأشولي بصحراء النفود شمالي المملكة» نتائج أول موقع أشولي مؤرخ في المملكة وهو موقع «النسيم» في صحراء النفود بمنطقة حائل، وتضمنت النتائج أدلةً بيئية على وجود بحيرةٍ عميقة ربما كانت عذبة المياه، مع أدلة معالم بيئية قديمة وما ارتبط بها من مواد أثرية تعود إلى عصر البلايستوسين الأوسط.

وأكدت النتائج الأخيرة لمشاريع المسح البيئي والأثري لمشروع الجزيرة العربية الخضراء الذي بدأ منذ 10 سنوات، أن الجزيرة العربية مرّت بتغيرات مناخية خلال عصر (البلايستوسين) فأضحت أجواؤها أكثر رطوبة، وأثر ذلك على انتشار الإنسان فيها وفي القارات الأخرى، وينطبق هذا على الجماعات البشرية في الفترة الأشولية، الذين كان ارتباطهم أشد بمصادر المياه في ما يبدو أكثر من غيرهم في العصر الحجري الأوسط.

موقع نسيم حائل

ويمثل موقع النسيم في نفود حائل حالياً أقدم المواقع الأشولية الموثقة حتى الآن في المملكة، ويكشف الستار على المستوى الإقليمي عن أنواعٍ من مجاميع لأدوات حجرية استخدمها الإنسان في عصر (البلايستوسين الأوسط)، ومن المرجح أنها تشير إلى تكرار عودة الإنسان إلى الجزيرة العربية عندما كانت مروجاً وأنهاراً، إذ يحتوي الموقع على حوض عميق تبرز في وسطه رواسب عثر فيها على مواد أثرية من العصر الحجري الأسفل، وقد تم جمع نحو 354 قطعة فأسٍ حجري، ورقائق حجرية مختلفة. واتضح من خلال المسح وجود ارتباط شديد بين المواد الأثرية والبحيرة الجافة.

ما سر الفؤوس البيضاوية والمثلثة؟

أشارت مقالة صحفية إلى تشابه أدوات الحجارة المكتشفة مع تلك التي سبق العثور عليها في المواقع الأشولية في صحراء النفود، ودلّت بعض القطع على جلب المواد الخام إلى الموقع لصناعة الأدوات، وطرح بعضها بعد اختبار جودتها، وشكّلت بعض القطع قبل نبذها. وتدل المسوحات الموسعة للمشروع ضمن نطاق صحراء النفود على أن مادة الكوارتزيت المحلي استخدمت في كثيرٍ من الأحيان لصنع أدوات حجرية أخرى ضمن الفترة الأشولية لم يتم تأريخها بعد، تشمل الفؤوس بأشكالٍ مختلفة منها بيضاوية وقلبية ومثلثة، إضافة إلى اختلاف أحجامها كما هو الحال في المواقع الأشولية الأخرى في صحراء النفود، وتبيّن تلك الأدوات الحجرية الأشولية بموقع النسيم أنها تعود إلى أواخر عصر (البليستوسين الأوسط) في حدود (350 ألف إلى 250 ألف عام)؛ أي ما يتوافق على الأرجح مع مرحلة النظير البحري التاسع حين ذاب الجليد فيها وتشكلت بحيرات في صحراء النفود ويدل التشابه بين المواد الأشولية بموقع النسيم والمواقع الأشولية الأخرى غير المؤرخة في صحراء النفود على أن المياه العذبة العميقة المستقرة في صحراء النفود كموقع النسيم ساهمت في سهولة انتشار الإنسان وتنقله نظير ما وجده من مياه عذبة ووفرةٍ في الصيد حولها. ويدل تنوع الثدييات كبيرها وصغيرها على وجود بحيرات تكونت إبان فترات ذوبان الجليد بمنطقة النفود، ما يدل على انتشار الحيوانات في المنطقة خلال المراحل الرطبة ووفرتها حول المياه مصدراً لعيش الإنسان.

الجزيرة الخضراء

تعمل هيئة التراث بمشاركة مجموعة من الخبراء السعوديين على استكمال المشروع العلمي (الجزيرة العربية الخضراء) بالتعاون مع نظرائهم الدوليين من معهد ماكس بلانك لعلوم تاريخ الإنسان، الذي يركز على تتبع ودراسة التغييرات المناخية التي تعرضت لها شبه الجزيرة العربية على مر العصور، وبين بداية الاستيطان البشري في البلاد وهجرة البشر إليها عبر قارات العالم القديم، وكشفت نتائج الدراسات السابقة للمشروع أدلة لوجود آلاف البحيرات، والأنهار، والغابات، والكائنات في أنحاء الجزيرة، التي نشأت حولها العديد من الحضارات المتعاقبة. بسبب المناخ المعتدل لشبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت.

الأغلى في النقوش الصخرية

أجمعت كتب التاريخ القديم على أن أرض الجزيرة العربية التي تستحوذ المملكة على أكثر من 70% من مساحتها تعد من أغنى دول العالم في نقوش الفنون الصخرية التي دلت تفاصيلها على وجود حضارات إنسانية قامت على أرضها خلال زمن ما قبل التاريخ أي قبل اكتشاف الكتابة، وبرزت بعضها في نقوش صخرية وجدت في: «الحناكية» بمنطقة المدينة المنورة، و«الشويمس، وجبة» في منطقة حائل المدرجتين ضمن قائمة مواقع التراث العالمي بمنظمة «اليونسكو».

محطات في مسيرة الحضارات

وضعت رؤية المملكة 2030 منذ إعلانها في 25 أبريل 2016م، التراث القديم والتراث الوطني على وجه التحديد أحد أهم العناصر الأساسية في إستراتيجيتها التنموية، بوصفهما رافداً من روافد الاقتصاد الوطني نظير ما تتمتع به المملكة من ثروات تاريخية تعد امتداداً لتاريخ الأمم والحضارات التي تعاقبت على أرضها منذ آلاف السنين.

ودعت رؤية المملكة إلى العمل على إحياء مواقع التراث الوطني والعربي والإسلامي والقديم وتسجيلها ضمن قائمة التراث العالمي، وتمكين الجميع من الوصول إليها على اعتبار أنها من الشواهد الحية على إرثنا العريق، والموقع البارز للمملكة على خريطة الحضارة الإنسانية التي منها طرق التجارة التي ربطت شبه الجزيرة وسواحلها بحضارات وادي النيل وبلاد ما بين النهرين، وازدهرت على أثرها بعض المدن في المملكة. ومن يعتزم دراسة التاريخ القديم للجزيرة العربية فإنه لا يمكن أن يغفل الاستشهاد بمدن سعودية عدّت محطات مهمة في مسيرة الحضارات القديمة مثل: حائل، نجران، والفاو، والطائف، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، والعيص، ومدائن صالح، وتيماء، وتاروت، وجبة، وشويمس، ودومة الجندل.

رئيس جمعية التنمية السياحية لـ «عكاظ»: حائل ثرية بالحضارات المتعاقبة

بشير الزويمل (حائل) bsheerAlzwaiml@

أكد رئيس مجلس إدارة جمعية التنمية السياحية بمنطقة حائل ماجد الجبرين، أن منطقة حائل غنية بتراثها الثقافي المتنوع والاكتشافات المتوالية التي تتم من قبل هيئة التراث، وهذا دليل على وجود حضارات متعاقبة استوطنت حائل. وأضاف أن الاكتشافات تزيد من إرث المنطقة التراثي والثقافي والتي تشمل مواقع ما قبل التاريخ ومواقع النقوش والرسوم الصخرية على رأسها موقعا جبة والشويمس التي تم تسجيلهما ضمن مواقع التراث العالمي في اليونيسكو، وكذلك آثار بعض القصور والمباني التي تم ترميم بعضها، والحصون، وغيرها من المباني المشيدة على النمط المعماري التقليدي، وكذلك الأماكن المرتبطة بشخصيات مهمة كحاتم الطائي، والمسارات القديمة لقوافل التجارة والحج والأماكن التي زارها الرحالة الأوروبيون.

وقال الجبرين، إن مع وجود هذه الموارد سواء التراثية والثقافية والموارد الأخرى السياحية كالبيئة والطبيعة التي تعتبر جاذبة لأعداداً كبيرة من الزوار من داخل المملكة وخارجها إلا أنه لا يوجد وجهة سياحية متكاملة بجميع خدماتها، فهذه المواقع تحتاج إلى المزيد من الجهد لإبرازها وتطويرها، وتطوير أنماط سياحية مناسبة للمنطقة، وقال إنه بالإضافة إلى سياحة التراث والثقافة هناك أنماط أخرى مثل سياحة الرياضة والمغامرات، وسياحة التنزه والترفيه التي ستكون عناصر جذب للسياح من الداخل والخارج.

وأكد الجبرين، أن جمعية التنمية السياحية بمنطقة حائل تعمل على تحقيق عدة أهداف، وهي المساهمة في توفير التسهيلات اللازمة لتنمية مستدامة لقطاع السياحة في المنطقة، وتفعيل دور المجتمع في التنمية السياحية من خلال قيام علاقة إيجابية بين المجتمع والسياح، ونشر الوعي والفهم وسط المجتمع، وتشجيع القطاع الخاص ورواد الأعمال على التعاون والتنسيق لتطوير المنتجات السياحية، والعمل على توفير التسهيلات اللازمة لتحفيز القطاع، وكذلك العمل على تسويق الوجهات السياحية وإقامة الأنشطة والفعاليات التسويقية والتحفيزية الجاذبة، بالإضافة لإبراز موارد هذه الوجهات المتنوعة لزيادة حجم السوق السياحية فيها، والعمل على تأهيل وتدريب الشباب والفتيات للعمل في القطاع السياحي، لافتاً إلى أن جميع هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها إلا بالتكامل مع المنظومة السياحية سواء وزارة السياحة والهيئة السعودية للسياحة وهيئة التراث أو عبر هيئة تطوير منطقة حائل، مبيناً أنني أرى أهمية وجود مكتب للإدارة السياحية بالمنطقة يعمل على توحيد الجهود والتكامل بين هذه الجهات المعنية وأيضاً المحميات الملكية كمحمية الملك سلمان بن عبدالعزيز ومحمية الإمام تركي بن عبدالله والتي لهما دور في تطوير وتشغيل المواقع التراثية والسياحية داخل نطاق المحميات.

دراسة تشابه كبير بين النقوش

قدمت الدكتورة والباحثة سارة الدوسري، دراسة تحليلية لنيل درجة الدكتوراه من كلية السياحة والآثار بقسم الآثار في جامعة الملك سعود عن (أسلوب جبّة بمنطقة حائل في الفنون الصخرية بالجزيرة العربية.. دراسة آثارية تحليلية)، وعدت أول دراسة علمية لمرحلة الدكتوراه تتناول تتبع الجماعات البشرية من خلال أسلوبها العلمي الميداني في شبه الجزيرة العربية. وكشفت الباحثة في دراستها إلى فترة البحيرات الأولى التي كانت في الجزيرة العربية قبل أكثر من 36 ألف سنة، والبحيرات الأخيرة التي تراوح عمرها ما بين 6 آلاف - 9 آلاف عام مضت تقريباً، كما بينت وجود تشابه كبير ما بين النقوش الموجودة على الصخور في مناطق: الحناكية، والشويمس، وجبة، والنقوش الموجودة في أقصى بلدان الشام والعراق التي تعود إلى ما قبل 13 ألف سنة أي خلال فترات الهجرة من الجزيرة العربية.

وتناولت الدراسة أسلوب جبّة الفني الذي نُقشت به الصخور في الجزيرة العربية في فترة ما قبل التاريخ، وكشفت وجود نشاط كبير لجماعات بشرية عاشت فيها، وكانوا يمارسون الصيد بالعصي الملتوية، والقوس، والسهم، والرمح، والشبكات، والقوس المستعرض الذي يعد اكتشافًا جديداً للفنون الصخرية في الجزيرة العربية وخارجها، لأن أقدم قوس مستعرض اكتشف في الصين قبل 600 سنة قبل الميلاد، ويعد ذلك حديثًا نسبيًا بالمقارنة مع ما وجد في الجبة.

وحددت الدكتورة سارة في دراستها «فترة عيش الإنسان في جبة شمال حائل» في فترة ما قبل التاريخ على صيد الحيوانات، وتربية الأنعام، وظهرت مكانة هذه الحيوانات جلية في عصره على الصخور التي وجدت في مناطق البحث بجبّة، لكن لم يثبت بالدليل الأثري إلى الآن ما إذا كان الاستئناس البشري بالحيوانات قد حدث بالفعل في الجبّة أو أن الجماعات التي سكنتها قد أحضرتها معها حينما نزلت بها بعد عودتها من هجرة الجزيرة العربية.

وأشارت الباحثة الدوسري، إلى أنها وجدت العديد من مواقع العصر الحجري القديم الأوسط في الجبة، مبينة أنها استخدمت في تصوير نقوش الفنون الصخرية مقياس الرسم العالمي المعتمد من منظمة الاتحاد الدولي للفنون الصخرية IFRAO، ودلت على وجود كثافة سكانية في ذلك العصر الذي كان في فترة مطيرة إلى أن جفت البحيرات، وحدثت هجرات كبيرة من الجزيرة العربية.