عبدالرحمن الحميري
عبدالرحمن الحميري
-A +A
حسام معروف
لحظة صمت، ربما أطول بكثير، تعقب الحديث الداخلي للإنسان، إما مع الآخر، كأبعد حد، أو مع ذاته، كملاصقة معتادة. لكن الفكرة في أصالة وجودة الموضوع، ومدى ملامسته للفرد. الأفكار التي تجتمع حول بؤرة ما، تصنع تمثالاً لها. فالوحدة هنا ليست موضوعاً بقدر ما هي مشروع حياة، الحكم عليه، يحتاج إلى وصول الحياة، لنهاية الطواف. هذا ما يحاول الشاعر الإماراتي عبدالرحمن الحميري ترجمته في مجموعته الشعرية «الأولوية للوحيدين» الصادرة عن دار رواشن للنشر والتوزيع 2019.

لعل التشكيلة الفنية المتباينة من حيث البناء المعماري للنص، التي يضعها الحميري في مجموعته، تجسد تباعد الخطى التي يمشي بها الحدس الشعري ما بعد قصيدة النثر، وعدم وجود خريطة للخطوة القادمة، هو أمر هام يمكن من التقاط المزيد من الإحداثيات على المنحنى الإبداعي للشعر.


نصوص كثيرة امتلكت مقومات الشعر في المجموعة، ما بين التكثيف والموسيقى الداخلية والمعنى الإيحائي والموضوع الفلسفي الذي تبحث عنه الصورة الفنية. لكن في نصوص أخرى غلب السرد بشكل يوحي بأنه متعمد من الشاعر، بهدفية التجريب ومنح شكل معماري مغاير للقارئ. هذا التنويع في مجموعة الحميري يفتح الباب أمام سؤال: كيف يقاس الشعر؟ هل بجودة اللغة، أم بندرة الصورة الفنية وحداثتها، أم بمدى ملامسة المحتوى للذات، جذباً، أو نفوراً، أو ببناء النص. وحقيقة، لا يطرق باب الشعر إلا بذلك كله. فهنالك مسطرة ذكية داخل أعصاب الإنسان، أقوى من مسطرة القياس المتداولة وأكثر مرونة في التقاط الصورة الشعرية. فداخل الجملة النثرية حساسة لالتقاط الصورة الشعرية أيضاً. والفضاء الإبداعي مفتوح على المزيد.

على مدار تراكيب النصوص، يفرض الشاعر حجْراً ذاتياً على الأشخاص المختبئين في النص، فالوحدة هي الثيمة الأكثر سيطرة على كافة المشاعر في مجموعته. الوحيد الشارد الخائف من الماضي والحاضر ومن المستقبل، الأكثر عبوساً في الصورة، غير القادر على الخروج من سجنه الداخلي في اللعب مع التعقيدات اليومية لمشاهد الحياة. هذا الشعور ربما يراود كل إنسان للحظة، لكن عند ميلان كونديرا، يعتبر هذا فلسفة الحياة للجميع حين يقول: «الكائن الإنساني ليس إلا شعوراً بالوحدة، وحيد يحيط به وحيدون».

الوحيد يرى الحياة من بعد، وقد لا يراها. لا يقترب من الأشياء بشدة، لا يشتم رائحة لشيء، سوى رائحة الجدران الصامتة التي لطالما ينظر إليها، حتى الأسقف في الغرف، لا يطمح إلى ملامستها. ومن ذلك البعد يرى الحياة بشكل مغاير، فهو لا يحفل بترك ماضٍ خلفه، ترثه ذاكرته بعد زمن، لذا يميل إلى محو كل المشاعر التي تجعل بينه وبين اللحظة رابطاً، يحن إليه تحت أي بند غير الحزن. ذلك يتضح في نص «بعد نظر» حيث يكتب الحميري:

«هناك شخص وحيد،

تعمد ألا يبتسم في الصورة الجماعية،

ثم بعد عشرين عاما، يعرف أنه كان على حق،

فهو الآن،

يتأمل عبوسه في الصورة،

دون أن يقول في نفسه،

أحن للأيام التي كنت فيها سعيدا».

وبنفَس أدباء اليأس، يذهب الحميري إلى منطقة تصلب العاطفة التي تنتاب المرء، كنتيجة لعدم الاكتراث لما يحدث من حوله. إنها حالة الهروب القصوى إلى الداخل، وتحليل الذات كعينة بائسة، لا يمكن البناء عليها في مسارات الحياة المختلفة. ذلك الحد الحاد من اللامبالاة، حتى لو تكررت حياته لمرات عديدة، وهيئات مختلفة منه ظهرت، سيبقى هو ذات المصير دون مواربة، فإنه يتقمص نفس الحالة من الهرب. يعبر عن ذلك الشاعر في نص «شرود» فيكتب:

«عدت للتو من شرود طويل.

التقيت فيه نسختين مني في حياتين سابقتين،

لم يلتفتا إلي».

حتى المرأة، يمثل الحميري في مواقفه معها حياة الوحيد، ومشاعر الإقصاء. فهو المحترق، المنسي، المهجور في مكان هامشي في ذاكرتها، وحاله معها، كما في الحياة تماماً، وحدة تتبعها وحدة. ففي نص «الطابق العلوي» يقول:

«أقطن الدور العلوي، من ذاكرة امرأة،

لا تقوى على صعود السلالم».

تلك اليوميات الجامدة، وواقع تكرارها الرتيب، تصنع من حياة المرء الوحيد صورة جماعية للحظات الخذلان مع كل شيء، لدرجة أن يبقى تفسيره لكل ما يحدث، كحركة بطيئة لملعقة داخل قنينة دبس رمان متجمد في الشتاء. فيلتقط الحميري كل ما يؤسس لهذا المعنى الباهت لسيرة الحياة عند شخص تداهمه وحدته.