محمد محسن
محمد محسن
-A +A
محمد محسن
في الميثولوجيا الإغريقية ثمة أسطورة تدعى «صندوق باندورا» تتحدث عن امرأة منحتها الآلهة بعضاً من صفاتها قبل أن ترسلها وبرفقتها صندوق مرصع بالذهب ومزين بزخارف دقيقة ومتداخلة كامرأة أولى إلى العالم الذي كان يستوطنه الرجال.

كانت باندورا حلاً مفترضاً لعالم يزداد سوءاً ومحاولة لمعالجة تشوهاته، وترياقاً للسأم الذي تسبب في شيخوخة الحياة.


ما إن حلت «باندورا» في العالم القديم حتى أحالت استاتيكيته الضيقة إلى فضاء رحب مترع بالتشويق والتعقيد.

وبحسب الأسطورة فإن افتراض مقدرة باندورا على إضفاء ألق ناعم لحياة معتمة وخشنة يكمن في قدرتها على منح الكلمات بريقاً ساحراً تتبدّى من خلاله فتنتها وبهاؤها؛ ولذلك أُخذ الرجال بها وبذلوا ما يستطيعون لنيل استحسانها وحينذاك ولدت الآداب والفنون والإلهام والشرور... كسُبل مبتكرة وإرهاصات متوقعة لقدوم الجنس الجديد.

بيد أن باندورا لم تلبث أن تحولت من مخلوق ذي قدسية إلى متعة نفيسة يسعى الرجال لإضافتها إلى متعهم التي اعتادوها قبل مجيئها.

يَفترض النظر إلى أسطورة باندورا بوصفها شكلاً أدبياً رفيعاً أن تبدو ملهمةً، وبإيلاء صيرورتها وثباتها النسبي أهميتهما سيتأكد ذلك، بيد أن منظوراً يصفها بتأريخ الإنسان وكينونته ووجوده وانعكاس واقعه سيضعنا إزاء عمل لا ينبئ بأن التمايز نما في ظل هيمنة الرجل فحسب، بل يؤكد على قدمه وأصالته في الثقافة البشرية وانصياع المرأة له.

وفيما تخبرنا الميثولويا أن حاجة الإنسان إلى القوة أنتجت نمطية مجتمعية بدت المرأة من خلالها كباندورا مستكينة للقيود التي فُرضت عليها شاغلة لحيز الملهمة الضيق الذي اُختير لها، يخبرنا التاريخ أن ثمة من لم ترق لهن تلك القوانين ورأين فيها إجحافاً وتعسفاً فآثرن أن يخلقن لمحاججتها عوالم مختلفة لا يكن فيها السيدات الأول فحسب، بل يقدنها من خلال الآداب والفنون نحو فضاء عادل ومنصف وإن بسمات مختلفة وعزائم متفاوتة.

على رأس قائمة غنية لمن تدثرن ظلال الأدب الطويلة تأتي الكاتبة والروائية الإنجليزية فرجينيا وولف إلى جانب أسماء لامعة كنيون دي لينكلوس ولو أندرياس سالومي وهان سوين... كأحدى أهم التجارب في التاريخ الأدبي التي اكتشفت مبكراً أن الأدب يمكن أن يكون أداة نضالية وفضاءً تزاول من خلاله انتقاداتها الحاذقة للأحكام التي شرعتها الأنماط الفكرية والثقافية الرجعية.

لم تغن عن فرجينيا جيناتها التي تعود إلى صلب ودم ثقافيين، ولا نشأتها في بيئة مترعة بالأدب، فالإنجليزية التي ولدت لمؤرخ بارز وناقد أدبي يرتبط بصداقات حميمة بأدباء وشعراء كجورج إليوت وهنري جيمس وماثيو أرنولد وينتسب إلى ما كان يوصف بالارستقراطية الثقافية وأم تؤول إلى عائلة رائدة في عالم الطباعة والنشر إذ حُرمت وشقيقتها فينيسيا التي غدت رسامة فيما بعد حق ارتياد التعليم النظامي بينما دفع بشقيقيهما ثوبي وأدريان إلى مقاعده نزولاً لما كان يقتضيه العرف الفيكتوري الذي كان بمثابة دستور عائلي فاضطرت وفينيسا إلى الاستعاضة عن ذلك بالتعلم الذاتي من خلال مكتبة والدهما الضخمة التي منحتا امتياز قراءة كل ما حوته من كتب، وحيث تعبق رائحة الحبر والورق وتضوع رائحة الأسى الحادة خاضت الإنجليزية الحالمة أولى معاركها مع الجهل في سن مبكرة فخرجت منتصرة.

إبان طفولتها لم تكن لدى فرجينيا وولف طموحات كبيرة وجل ما كانت تأمله هو أن تلفظ تلك المرارة التي علقت بروحها جراء ما شعرت به تجاه مقدرتها الفكرية وجدارتها الذهنية مقارنة بأخويها، ولكنها فجأة تنبهت إلى أنها تملك أداة فكرية نابهة لسبر الذات واقتلاع هزائمها ومن ثم بنائها على نسق متماسك وصلب تستطيع من خلاله مواجهة الخسائر التي منيت وستمنى بها على غرار مبضع الجراح الذي ينتقي موضعاً مناسباً ينغرس من خلاله في جسد المريض ليقتطع الجزء الذي يؤذيه.

الزهرة الثائرة التي تقبع جذورها في عالم باندورا الصلد وتطل بتلاتها على عصرنا هذا ظلت تنقب الصخر بقلمها إلى أن بلغت ثقباً يتسع لعنقها تنفذ من خلاله إلى العالم ولكنها ظلت مغروسة في تربتها المحلية.

لم تهدر طاقاتها الثمينة في تمردات سلبية وهامشية لا تمت لنهضتها بصله بل ذهبت من خلال وعيها وإدراكها لقياساتها الفكرية والاجتماعية وخصوصيتها العاطفية إلى السيطرة على مستقبلها وإحالة ما تعلمته من فنون وعلوم وتاريخ لمصلحة نموها وتأكيد هويتها.

كانت صيرورة ثورتها تنبع من تغييرات نفسية عميقة ظلت تمثلاتها تجول وتتسع في داخلها إلى أن بلغت أوجها من خلال العاطفة التي كانت تدفع بها لتخلق منتجاً أدبياً يحتج على الواقع. ويحاججه.

وعبر يقينها بأن الإرادة الخلاقة تؤثر إيجاباً في الحياة الاجتماعية وتتجاوز الطقوس التي تمارسها المرأة كنوع من التعبير عن الحب والحماية لمن حولها قررت أن تمنحنا عالماً متكاملاً وفسيحاً يحتوي مدناً من الوعي.

تارة كانت تسير بتؤدة خلف ذاكرة المشاعر وتتبع ما يمليه عليها حدسها تجاه الأحداث وتارة كانت تتحول إلى راقصة بارعة تتزلج على ثلج اللغة لتجسد صورة مثالية للأديبة التي تملك تقنيات العاطفة المتجددة وتكنيك اللغة الباهر، والمرأة الباحثة عن حل لإشكالاتها مع الحياة وليس مع الرجل فقط، وسواء كانت تلك مهارة فطرية أو وسيلة دفاع محفوفة بالمخاطر فقد نجحت في خلق عالمها المختلف وأدخلتنا إليه طواعية.

لقد حاكت فرجينيا رواياتها بخيط رفيع من الوعي والإحساس وبمهارة متناهية كانت تمسك بمسلتها لتخيط كل جملة على حدة ومن ثم تضعها حيث يجب أن تكون تماماً لتقوم بدورها كقطعة من رابط وطيد بين النص والغاية.

لقد صنعت أدباً يسترعي لب القارئ ويحيل قلبه إلى غمامة مستديرة قبل أن تحدث فيها ما يشبه البرق، وحولت رؤية غلسية إلى امتدادات خيالية، وكثفت فهمنا لذواتنا وتكوينها وتجلياتها، اتبعت موجة الخيال، وركضت نحو الأمل، وحملت هموم المرأة، ومنحت لمن خلفنها أراضي خصبة يستطعن أن يُحلنها إلى بساتين تعج بالأفنان والزهور.

ورغم خسائرها المتوالية التي منيت على إثرها بانهيارين عصبيين ضربها الأول فجر مراهقتها حين رحلت والدتها ومن ثم أختها غير الشقيقة فشقيقها وتوغل الآخر نحو عقلها حين رحل والدها ناهيك عمن فقدت من أصدقاء خلال الحربين العالميتين والحرب الأهلية الإسبانية ما أصابها بانهيار عصبي وعقلي مزمن ظل مرافقاً لها فقد ظلت صامدة إلى أن أطاح بها فأنتقت لخلاصها إحدى أكثر الطرق مأساوية وأبسط السبل اليائسة، ولكنها على طول الطريق الذي سلكته نحو نهر أوز لتغرق فيه جسدها المنهك، لم تكن تضع الحصى كعلامات دلالية كي لا يظل أحدهم طريقه كما تزعم مواطنتها الروائية مارغريت يونغ، بل كانت تضع الحجارة في معطفها وتترك مكانها فارغاً لتنبت فيه زهرة ضئيلة حتى إذا ما بلغت قاع النهر كانت براعم هشة قد أطلت برؤوسها، ليتحقق ما كانت تأمله إبان حياتها.