الحُسين معافا
الحُسين معافا




علي مكي
علي مكي
-A +A
الحُسين معافا @alhussainmoafa
صديقي علي مكي.. مات أبوك مكي الوالد الطيب، الذي لطالما أحببناه كثيرًا وأحببناك وأنت تحن له وتشتاق وتكتب عنه من أقصى بلاد الله.. تطوي المسافات البعيدة كلما شعرتَ أن قدم والدك تعثرت بحصى صغيرة وواحدة.. أشعر بجزء واسع من حزنك هذه الليلة.. الليلة الأولى التي ينام فيها والدك متخففًا من مأساة العالم والحياة والعجز والذاكرة التي تسلقها الزهايمر وبقى قول الله والقرآن والحكمة التي تخرج وحدها كلما احتشدت الأزمات في نصل الروح.

الليلة الأولى التي أجزم فيها بأنك تبكي الآن بقوة في المكان المفضل لجلوسه.. إنني ألمس روحك المرهفة وعالية الإنسانية.. روحك القوية والصلدة في الحزن.. روحك التي تقف أمام الريح والعواصف.. متجاوزاً إياها لتكتب نصك الخالد عن المعارك الدامية.


لطالما حاولت الاتصال بك وفشلت هذه الليلة.. فشلت في الكلمات التي تضمد روح النزيف الغائر من عمق الفقد والصدمة.. وما الذي يمكن قوله في هذه اللحظات الأشد خلوداً في ذاكرة الأيام المؤلمة.!؟ «و كم أن هذا الأمر مربك» كما كتب صديق لآخر، كان له ما كان لك في هذه الليلة.. كتب بملوحة ماء الدمع «لم نستطع أن نمنح الموت تعريفاً مطلقاً.. اسماً واحداً.. وهو يحدث كل يوم.. وأنا لم أستطع اختراع كلمة واحدة تبدو معقولة لأقولها لك لو اتصلت بك.. حاولت اختراع جمل عديدة في ذهني.. جمل مختلفة بعضها معروفة للعامة.. قلت سأقول أنا بجانبك.. الجميع بجانبك.. فكرت بجمل ومصطلحات وبطبقة صوت معينة.. وأخفقت.. هذا الدور صعب.. كل عضلة في جسمي ترتجف.. لكن لساني وحده متخشب.. فرع شجرة متخشب.. والكلمات تموت فوقه مثل عصافير لن تستطيع الطيران أبداً.

يا صديقي.. إذا كان للشخص أب.. أو أخت.. حتى لو ماتا. هل تتوقف عن القول أن لديك أباً.. أو أختاً.. دائما يبقى هذا النصف الآخر للمعادلة.. الآباء لا يموتون أبداً.. يعيش الرجل.. ليس على أن لا يموت.. بل على أمل أن يصبح ذكرى.. وهذا الرجل والدك أعظمُ عينة وجدت لتصلح حين ترحل كذكرى عند كل من عرفوه.

أنت تحب والدك.. الجميع يحبون آباءهم.. ولو كان لدي مواساة.. فهي أن أحثك على أن تحزن بصدق، يجب أن تغوص إلى أعمق نقطة، لا تلتفت للأيادي التي تريد إنقاذك.. للكلمات التي تحاول التقليل من فداحة هذه الخسارة.. لا تحاول أن تحمي نفسك من الحزن.. أي أحمق يستطيع أن يبدو قوياً ومتماسكاً كل يوم.. يتطلب الأمر رجلاً حقيقياً بقلب حقيقي ليبكي، من أجل صنع جمالية إنسانية حقيقية من هذا البكاء، ومن الشيء الذي جعله يبكي.

العواطف لا يمكن أن تغطيها كلمات مفردة.. اللغة مجرد خدعة لتبسيط الشعور.. اللغة مهما حاولت لن توضح يوماً (ما) علاقة موت أب بكره ولده للمرايا حين يصبح كبيراً.

أنا لم يكن لدي يوماً الكلمات المناسبة لوصف حياتي، ولن يكون لدي ذلك، ولا لدى أي أحد.. كلمات مناسبة لوصف الحياة والموت، التملك والفقدان.

إنما أعتبر كلماتي هذه تحديقاً إليك عن كثب.. تحديقاً صادقاً، قبله ما كنت تعتقد أنك تستطيع البكاء..

تخيل عيوني الآن: تخيل هذا التحديق، وابكِ لأسبوع، أو لسنة.. لا تتوقف أبداً؛ لأن أحدهم سوف يريد منك ذلك.

هذه فرصة لا تعوض.

أنا آسف.. لم أستطع إنقاذ والدك.. ولا أحد سيستطيع.. في عمري كله لم أنقذ أحداً.. ولا أحد سيستطيع»!