عبدالله الخطيب
عبدالله الخطيب
-A +A
عبدالله بن علي الخطيب
تلقيت بامتنان كبير دعوة الدكتور عبدالعزيز السبيّل (أمين عام جائزة الملك فيصل) للمشاركة في الكتابة ضمن مشروع (مائة كتاب وكتاب) الذي تبنَّته، كما هو معروف، جائزة الملك فيصل العالمية بالشراكة التامَّة مع معهد العالم العربي.

ترك لي الدكتور السبيّل الاختيار بين ستة مستشرقين، يجب عليَّ إن رغبت في المشاركة أن أختار واحدًا من بين هؤلاء؛ بحثتُ على عجَل في مسيرة هؤلاء الكتاب. توقفتُ بعد ذلك مباشرةً عند فيلجانس فرنيل (1795- 1858) واخترت الكتابة عنه لسبب أساسي؛ وهو أنني كما لاحظت لأول وهلة، أنه زار منطقة شبه الجزيرة العربية، وأقام في جدة على فترتين متقطعتين.


بعد أن التزمت بالكتابة عن فرنيل، بدأت رحلة البحث عن المصادر، أو بالأحرى عن منتَج فرنيل المعرفي. أولى المفاجآت هي -على حد علمي وعلى حد علم مَن سألت من الأصدقاء في باريس- أنه لا ت0و

جد كتب مستقلة كُتبت حول هذه الشخصية الفكرية. وبطبيعة الحال لم أقف في الفضاء العربي إلا على إشارة واحدة لما تفرَّد به فرنيل (وردت تحت مسمى فرنسل) من الكتابة والدعوة إلى الكتابة والتعمُّق في اللغة الحميرية التي أطلق عليها اسم (إحكيلي).

في نهاية مطاف البحث والتقصي والتواصل مع الأصدقاء، وجدتُ أن معظم أعمال فرنيل نُشرت في المجلة الآسيوية الشهيرة. ثم بعد ذلك، استخلصَتْها المكتبة الوطنية في باريس ونشرت معظمها على موقع المكتبة باللغة الفرنسية. منتَج فرنيل عبارة عن مقالات متأرجحة الحجم يتجاوز بعضها المائة صفحة. ويمكن القول بكلمة واحدة، فرنيل هو من (المسكوت عنهم) الذين أشرت إليهم في معرض ما كتبته حول أهمية (مائة كتاب وكتاب) المعرفية. وكما فهمتُ، فإن مهمة الباحث، عبر هذا المشروع هي أن يمنح -على الأقل- القارئ والمتلقي العربي على وجه الخصوص، مفاتيح قلاع هذه الشخصيات الفكرية، كما يقول المثل الفرنسي، للتعرف على خطوطه العريضة وليمهّد النصُّ الطريقَ للمتلقين والباحثين لاستنطاقه أكثر فأكثر.

عرفتُ الاستشراق عبر إدوارد سعيد، ولا أستطيع استبعاد حقيقة أن (استشراق) إدوارد سعيد شكَّل تمثُّلاتي الأساسية من حيث -كما يقول إدوارد سعيد- إن الاستشراق هو صناعة الشرق من قِبَل الغرب. ولا أعلم حتى بعد هذه الرحلة (الشاقة) مع فرنيل: هل تغيَّرت حقًّا تمثُّلاتي لظاهرة الاستشراق أم أنها تكرَّست؟!

فرنيل (مستشرق) فرنسي عاش، بشكل عام، في المنطقة العربية في الفترة ما بين (1830 - 1858)، مثقف موسوعي: لغوي ضليع، مؤرخ، أنثروبولوجي، مفكر، مترجم، عالم بالجغرافيا، شغوف جدًّا بعلم الآثار. كتبَ فرنيل في جميع هذه التخصصات، ويمكن القول بلا تردد إنه من الموسوعيين الذين اندثروا.

بدأت رحلته إلى الشرق في الإقامة بالقاهرة مختلطًا بشعبها وعلمائها وثقافاتها. ثم بعد ذلك، أقام في مدينة جدة (على فترتين الأولى باعتباره باحثًا/‏ مستشرقًا والأخرى باعتباره مستشرقًا ورجلَ دولة: أول قنصل لفرنسا في مدينة جدة)؛ أنهى فرنيل مسيرته مع المشرق في العراق، وفي بابل على وجه التحديد، رافضًا العودة، وغاضبًا من استدعائه إلى باريس، الذي كان الغرض منه إنهاء مهمته.

فرنيل، كاتب قادم من بيئة معرفية لها ما لها في العلم والمعرفة، وهو أخو أوغستان-جان فرنيل صاحب عدسة فرنيل الشهيرة. تكوينه المعرفي منذ الصغر كان مكثفًا ولصيقًا باللغات والأديان. من يتأمَّل نصوص فرنيل، منذ النصوص الأولى ورسائله المستفيضة حول (تاريخ شبه الجزيرة قبل الإسلام)، يكتشف مباشرةً أنه قَدِم إلى المنطقة وهو ملمٌّ إلمامًا بارعًا بكل ما استطاع إليه سبيلاً من النصوص التي كُتبت عن المشرق. منذ الرحالة الإغريق حتى آخر رحالة ومستشرق كتب عنها. درايته بتفاصيل ما كُتب عن المشرق جليَّة على امتداد مقارباته. والأمر لا يتعلق بتاريخ المشرق وإنما كان أيضًا على دراية لافتة بكمٍّ هائلٍ حول ما كُتب عن لغاته وجغرافيته وأساطيره، وشيء ما حول معتقداتها. إحدى مناطق تفرد فرنيل الكبرى على امتداد النصوص التي كتبها هو أنه لم يكن للحظة، أسيرًا لهذه القراءات؛ ففي كل مرة يقف على مكانٍ ما أو يكتشف مقاربةً مغايرة لما هو مستقر في ذهنه على إثر قراءاته، يتموضع موضع المتحقق معلنًا عدم دقة ما وقف عليه فيما سبق. وأنه على خلاف ما ورد في هذا النص أو ذاك. تكوين فرنيل الموسوعي أتاح له كتابة مقالات عميقة حول اللغة العربية واللغة الحميرية واللغة العبرية، وحول تاريخ العرب قبل الإسلام، وحول الأساطير، والجغرافيا، والآثار، ومجالات أخرى.

هل كان فرنيل، على امتداد ما كتبه معرفيًّا؟ بمعنى: هل تجرد وأخضع كتباته لقِيَم المعرفة الحقَّة كالتجرُّد، والعقلانية، والتحقق؟ يمكن القول مباشرةً إن فرنيل هو النموذج الصارخ للشخصية المعرفية وغير المعرفية بطريقة تدعو إلى الاستغراب. في كل مرة أقف على سلوكياته الخطابية تتملكني أعلى درجات الحيرة، وأقول في نفسي: في الوقت نفسه الذي يمارس فيه هذه السلوكيات الخطابية عبر ما يكتبه عن المشرق، نجد الغرب منشغلًا بنصوص معرفية كان لها كبير الأثر على الفكر الإنساني وتاريخه. قَدِم فرنيل إلى المشرق تاركًا خلفه نصوص روسو، ومونتسكيو، وفولتير، وكانط...، ولو سلمنا -وهذا ما نتوقعه من مثقف بارع بمنزلته- بأن فرنيل قد اطَّلع على هذه النصوص الإنسانوية الكبرى، يحق لنا أن نتساءل: أين هي تلك المقاربات الأخلاقية الكبرى من فكر فرنيل ومن فكر غيره من كثير من المستشرقين؟ لماذا لم يُشر على امتداد المقالات التي كتبها ولو للحظة واحدة إلى هؤلاء؟ أو لماذا لم تخالط هذه (الهواجس) الإنسانوية كتابات فرنيل؟ أو لماذا انهزمت، في سياق الاستشراق، قيم المعرفة أمام اختلاط السلطة بالأيديولوجيا؟

تجرّدَ فرنيل وكان معرفيًّا إلى حد كبير، عندما كتب عن اللغات وعن الأمكنة وعن الطبيعة وعن الأشياء، ولكنه لم يكن كذلك عندما تعلَّق الأمر بالسياسة وبالدين. كتب نصًّا مهمّا عن اللغة (الحميرية/ ‏الشحرية) يستحق الترجمة والتدقيق والإخضاع للتحقق. ترجم لاميَّة العرب مرتين، تشابك مع الشنفرى حد الافتتان، وفي أكثر من مرة يجعله المرجع الأخلاقي بقوله: هذه الشخصية أو تلك تشبه الشنفرى؛ يعترف بمفارقةٍ لافتة وهي أن الشنفرى رجلُ دمٍ، وهو رجل معرفة، لكنه لا يمكن أن يقاوم إغراء عمق وصدق المضامين الأخلاقية التي يدعو إليها الشنفرى، حتى إنه يرى أنها جديرة بالنقل إلى أوروبا. كتب عن أيام العرب، وترجم جزءًا لا بأس به من هذه الأيام، كان قارئًا (رغبويًّا) ومترجمًا مستوعبًا لهذه (الأيام/ ‏الوقائع)، ينتقي ما يتسق مع تفكيره، يترجم، ثم في بعض الأحيان يعلق ويعقب على خطاباتها. من ذلك ما فعله في الحوار (الشهير) الذي دار بين النعمان بن المنذر وكسرى في حضرة الوفود من الهند والروم والصين، وسؤال كسرى للنعمان من أنه لا يرى ما يمكن أن يتحدث به أو أن يشيد به من منجزات عند العرب، على غرار ما وصلت إليه الأمم الأخرى من البنيان والأفكار والصناعات، وما كان يلمز إليه كسرى من إحراج للنعمان على ما يعيشه العرب من تخلف حضاري ناتج عن شُح «الإنتاج» وغلبة الرغبة في «الاستحواذ»...

كتب نصوصًا غاية في الجمال عن مدينة جدة؛ المدينة التي أحبها وأحب العودة إليها، كتب عن بنيانها وعن مشربياتها التي تمنَّى -كما قال- أن ينقل بعضها إلى فرنسا عبر ميناء لوهافر الشهير. كتب عن حضور الموسيقى في جدة وعن إعجابه بها، بعد أن كان لا يطيقها. لم يتوقف كثيرًا -على حد علمي- عند وصف الدور السياسي لسكان جدة، وإنما كان حديثه عن اللقاءات المعرفية والإنسانية والثقافية.

فرنيل لا يطيق التلوُّن ولم يمارسه في كل تمظهراته، على امتداد رحلته. واجه مصدات كثيرة، لم يتزعزع حرصًا منه على عدم التخلي، ولو للحظة، عن مبادئه وقيمه التي آمن بها إلى الأعماق. فرنيل هو هو في كل مكان: في القاهرة، وفي جدة، وفي منطقة بدر (في المدينة)، وفي بغداد، لم يمارس أبدًا لعبة التخفّي والأقنعة تحت اسم مستعار كما فعل كثير من المستشرقين. (هنا أتحدث عنه قبل أن يصبح مسؤولًا دبلوماسيًّا؛ إذ إن الضرورة المهنيَّة تحتم عليه ذلك). يعلن فرنيل، في كل مرة ودون تردُّد عن انتمائه الأيديولوجي ويتحمَّل المسؤولية كاملة؛ مُمارس أخلاقي لـ(الصراحة) بمعناها الحقيقي الذي يحيل على «قول الفرد ما يرغب بقوله» دون خشية (عواقبية) هذه الصراحة. ينطبق عليه -بتصوري- رؤية فوكو للشخصية الممارسة للصراحة، بمعنى أنه كائن صريح (باريسياني) بامتياز. والحق أن هذه (الصراحة) لعبت دورًا مركزيًّا في وضوح خطاب فرنيل.

هذا الخطاب الصريح لفرنيل أسهم في تشييد حالة من التلقي (المريح)؛ بمعنى أنه ليس ثمة حاجة إلى ممارسة حسابات تأويلية مرهقة للوصول إلى مضامين خطابه ومقاصده وغاياته، كما أنه ليس ثمة حاجة لممارسة حسابات تأويلية للقول إن فرنيل شكَّل بخطابه نموذجًا (مثاليًّا) للمستشرق المتمركز ثقافيًّا وأيديولوجيا. خطاب فرنيل بخاصة في مرحلة سنوات القاهرة خطابٌ يُحيل، بشكل عام، على ذات متضخِّمة لا ترى الإنسان والكون والعالم إلا من خلال نموذجها القِيمي، وكل ما يتعارض مع هذا النموذج فهو موضع شك وتوجُّس على المستوى القيمي والأخلاقي. تمركُز فرنيل الثقافي والأيديولوجي أوقعه -وهذا قدر وخطورة هذه الممارسة- في فخ «الأحكام القيمية».

قدر الإنسان المُفكّر، بما هو كائن متحوّل، أنه يكاد يكون من المستحيل بقاؤه كما هو في نظرته للإنسان وللأشياء، لذا يبدو أن فرنيل (جدة) مختلف عن فرنيل (القاهرة). مع ذلك، ورغم موقفه المتجرد إلى حد كبير تجاه مشهد الحج وقراءته لهذا المشهد من الزاوية العلمية والأخلاقية باعتباره نموذجًا للتجرُّد والمساواة، إلا أنني أتموضع هنا وأقول بلا تردد: إن فرنيل لم يكن غير متعاطف مع الإسلام فحسب، بل كان -في كثير من الأوقات- رغبويًّا في أحكامه غير المحايدة تجاه الإسلام. لقد مارس عبر تموضعه المتعالي أعلى درجات الخلط والاختزال والتعميم بين ممارسات بعض المسلمين وبين الإسلام. ما هو مؤكد، أن فرنيل -وهذا ما يقوله خطابه- كان حريصًا في كتاباته الأولى على ضرب الإسلام بتاريخ ما قبل الإسلام. خطابه عبر بعض النصوص والشواهد التي أوردها وعلق عليها تروم الانتقاص من المنظومة القيمية التي -بالنسبة لفرنيل- جاء الإسلام وحطَّمها. مُحزِن جدًّا، أن تدافع شخصية معرفية موسوعية عن جهلها بهذا الأسلوب. فرنيل جاهل أو يتجاهل علاقة الرسالة المحمدية بالقيَم وما أعلنه منذ بداية دعوته (عليه الصلاة والسلام) أنه: «بُعث ليتمم مكارم الأخلاق». فرنيل دافع عن جهله، أو لم يكن يرغب بالاعتراف بهذا الاعتراف الإسلامي للقيَم السامية الرائجة قبل الإسلام.

قال لي صديق حقيقي بعد أن قرأ ما كتبتُه حول فرنيل: «كأنك يا صديقي تدافع عن الإسلام وأنت في سياق يحتم عليك الابتعاد عن اتخاذ أي موقف».

الحق أنني لم أتردَّد ولو للحظة في حياتي في تبني تموضع هويّاتي صريح. أتموضع هنا (مثلما أتموضع عندما يتطلب الأمر التعبير عن هويتنا السعودية العربية) باعتباري مسلمًا ومؤمنًا إلى الأعماق. أتموضع على طريقة بول ريكور، عندما يتطلب الأمر التموضع، بمعنى أنه عندما يلزم القول لا بد أن يقول المتكلم: «أنا هنا». معلنًا موقفه والتزامه. وهذا التموضع يدخل مباشرةً ضمن (أخلاقية لغوية) متصلة بمسؤولية نقل خطاب الغير. واجب القول هو قول ما قاله فرنيل. قول ما قاله فرنيل هو حق المتلقي في معرفة ما قاله مَن نكتب عنه أو مَن نحاول تقديمه للمتلقي، أما التأويل الذي مارستُه (الذي هو جزء أساسي من تحليل الخطاب) فإنه يُحيل على ظروف إنتاج الخطاب والتأويل مما جعلني أذهب في وصف جزءٍ من خطابه بـأنه ذهب حدَّ «الوقاحة» في دفاعه عن جهله فيما يخص بعض مواقفه من مبادئ الدين الإسلامي. تجلت هذه (الوقاحة) كما يظهر في النص في مناطق متعددة لكنها تصل إلى ذروتها عندما يقول: «لن أغفر (لن أسامح) للإسلام أبدًا إلغاءه سوق عكاظ..»، هذا التموضع الخطابي يُحيلنا على ما يمكن أن تصل إليه النفس الإنسانية من التضخُّم والتعالي وإلى الرغبة في صهر الآخر في منظومته القيمية وتشييده وفقًا لرؤيته هو للإنسان والعالم، كما قد يكون في نفس الوقت تموضعًا (لاهوتيًّا) مسكونًا بمفهوم (الغفران) الذي يلتصق به صاحب الخطاب.

رفضُ موقف فرنيل من الإسلام هنا ليس رفضًا للمصادمة الضرورية ما بين «الانتقاد والاعتقاد» كما يطالبنا بول ريكور، وإنما هو رفض لممارسة لعبة الأحكام القيمية؛ هو رفض للمغالطات، وغياب التحقق المعرفي، وعدم استعمال المنهج التاريخي بطريقة سليمة. وهو في الوقت نفسه دفاع عن الحقيقة التي يتبناها الإنسان. وهي هنا (حقيقتي) التي هي ليست حقيقة فريل. حقيقتي التي تتوقف عند حقيقة فرنيل ولا تملك هذه (الحقيقة) أية مشروعية في الاعتداء على حقيقته ولا على أية حقيقة في هذا العالم. (الحقيقة) هنا هي المقدَّس، وبالتالي هو موقف من المساس بالمُقدَّس الذي يعنيني ورفض المساس به. نقبل حقيقة الآخر ويحق لنا في الوقت نفسه عدم الإقرار بها، لأن احترام حقيقة الآخر شيء والإقرار بحقيقته شيء آخر غير ملزم، أو لا يدخل في شرط تحقق مثاقفة تروم تفشي «الاعتراف المتبادل» في الحياة الإنسانية المشتركة. نحترم حقائق الآخرين لكننا لسنا ملزمين بأن نتبناها.