حسن المصطفى
حسن المصطفى
حسن المصطفى في لقاء مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع.
حسن المصطفى في لقاء مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع.
حسن المصطفى مع الباحث فهد الشقيران في مكتبته.
حسن المصطفى مع الباحث فهد الشقيران في مكتبته.
-A +A
حاوره: علي فايع alma3e@

يرى الكاتب والباحث حسن المصطفى أنّ المقاربات النقدية قديمة، وأنه شخصياً كتب العديد من المقالات والتقارير منذ أكثر من 15 عاماً، في عدد من الصحف السعودية والعربية والمواقع الإلكترونية، فضلاً عن المشاركة في حوارات متلفزة، تناول فيها بالمراجعة ليس «الشيعية السياسية» وحسب، بل عموم الفكر الديني وتمظهراته، لكنه يقرّ أنّ هناك إشكاليات حقيقية تتعلق بهذا الموضوع؛ إحداها أن البيئة الحاضنة للنقد في الفضاء العام الخليجي فيها خلل، إضافة إلى إشكالية «فحوص الدم الوطنية» الذي انتهجته -كما يقول- التيارات «الصحوية» و«الشعبوية» لأهداف تياراتية بحتة، وربما لقلة الوعي وسوء في التقدير.

العديد من المشكلات والحلول يقدمها الكاتب والباحث حسن المصطفى في هذا الحوار:

• لماذا تأخرت المقاربة النقدية لـ«الشيعية السياسية» من الكتاب الشيعة في السعودية؟

•• لا أعتقد أن ثمة تأخراً، فالمقاربات النقدية قديمة، وشخصياً كتبت العديد من المقالات والتقارير منذ أكثر من 15 عاماً، في عدد من الصحف السعودية والعربية والمواقع الإلكترونية، فضلاً عن المشاركة في حوارات متلفزة، تناولت فيها بالمراجعة ليس «الشيعية السياسية» وحسب، بل عموم الفكر الديني وتمظهراته.

هنالك إشكاليات حقيقية تتعلق بهذا الموضوع؛ إحداها أن البيئة الحاضنة للنقد في الفضاء العام الخليجي يشوبها الكثير من الخلل، فلكي تكون هنالك قراءات أكثر تحرراً، ومتجاوزة للسائد، لا بد أن تفتح أمامها حرية التعبير عن الرأي دون قلق، ودون إكراهات أو أحكام مسبقة أو توجيه؛ بمعنى أن تكون هذه المراجعات علمية الطابع، بعيداً عن التسييس أو الاستخدام الحزبي أو المذهبي.

مشكلة كثير من الكتاب، أنهم يطرحون سؤالاً يعتبر مستفزاً لجمهور واسع من المواطنين الشيعة في الخليج، وهو: أين عقلاء الشيعة؟ وكأن السائل يفترض أن «الجنون» هو السائد في الأوساط الشيعية، فيما العقل هو الاستثناء!

إن السؤال عن «المثقف» بصيغته المذهبية هو سؤال طائفي بامتياز، كون «الثقافة» هي نقيض «الطائفية»، ولا يمكن أن تستقيم معها!

الإشكالية الأخرى، أن هنالك ما يشبه «فحوص الدم الوطنية»؛ أي أن على المواطنين الشيعة أن يثبتوا ولاءهم في كل حدث، وهو سلوك انتهجته التيارات «الصحوية» و«الشعبوية»، الأولى لأهداف تياراتية بحتة، والثانية لقلة وعي وسوء في التقدير. وهذا السلوك تحديداً، يجعل الكثير من المثقفين والشخصيات الوطنية الشيعية في الخليج، يشيحون بأقلامهم عن الكتابة حول موضوع «الشيعية السياسية» لا إيماناً منهم بها، بل، لأنهم لا يقبلون أن يكونوا خاضعين لـ«الابتزاز السياسي - المذهبي» أو يتحولوا إلى مجرد صدى للآخرين، أو يمارسوا الشتم أو التحريض.

إن المطلوب هو خلق حالة من الوعي، التغيير الإيجابي نحو تعزيز قيم «المواطنة» و«سيادة القانون»، والتحرر من الخطابات الإسلاموية، لذا، من المهم توفير بيئة صحية لكي يمارس فيها الناس نقدهم المنهجي بشكل سليم.

مع كل ما تقدم، فإن المثقفين السعوديين والخليجيين الشيعة، كثير منهم لديهم شجاعة النقد، والتحرر من سطوة التمذهب، والكثير منهم جهر برأيه، والأمثلة على ذلك عديدة. وهم في نقدهم هذا، يرفضون أن يقدموا أنفسهم بصيغتهم المذهبية، بل دائماً ما يصرون على تقديم ذواتهم بصفتهم الوطنية المتجاوزة للطوائف.

• القراءات النقدية سواء للشيعيّة السياسية أو السنّية السياسية، هل كانت السبب في تقديم صورتين متنافرتين للدين؟

•• الإشكالية الحقيقية كانت في احتكار الدين من قبل مجموعة من رجال الدين، الذين يعتقدون أن ثمة تصورات محددة، هي صحيح الدين، وما سواها مجرد هرطقات، هذه التيارات التي عملت على تكفير المختلف مذهبياً وفكرياً، أو سعت إلى التضييق على أصحاب الأسئلة، هي التي قدمت صورة سلبية للدين، وجعلته مغلقاً مذهبياً، عنيفاً تجاه الآخر، لا يقبل التعددية والاختلاف، ويعتبر أي وجهة نظر أو اجتهاد يخالف قراءته الأحادية، مروقاً عن الجادة يجب أن يعاقب صاحبه.

من هنا، وجب التحرر من الراديكالية الدينية، وجعل الدين متخففاً من التسييس والانغلاق، وفتحه أمام المزيد من القراءات المعاصرة التي تفهمه بعقل اليوم، وليس وفق آراء القدامى والموتى، الذين لا يملكون أي تصور عن الحياة المعاصرة والحديثة!

• تؤكد أنّ الحراك المعرفي أصبح حاجة ملحة في منطقة الخليج العربي.. لماذا بالتحديد في هذه المرحلة؟

•• أهمية هذه المرحلة أنها تشهد أحداثاً مفصلية، بعضها سلبي والآخر إيجابي.

الإيجابي على سبيل المثال، عملية الإصلاح الجارية في السعودية، التي رافعتها «رؤية 2030»، وهي رؤية ليست اقتصادية واجتماعية وحسب، كما يظن الكثيرون. بل هي رؤية تقوم على اجتراح أنماط تفكير جديدة، على قطيعة تامة مع التطرف والانغلاق والقراءات الأحادية للدين.

«رؤية 2030» لا بد من التأسيس الفلسفي لها؛ أي وضع تصورات ذهنية، كونية، معرفية، تكون بديلاً عن التصورات الدينية المحافظة التي تحد من إعمال العقل. من هنا، لحظة «رؤية 2030» هي لحظة مفصلية تاريخية، تضع حداً واضحاً بين مرحلتين، مرحلة تقليد الأسلاف ومرحلة تحرر العقل.

رغم أن «الرؤية» أتت لتكمل مسيرة الدولة السعودية، وتبني على ما أنجز، إلا أنها أحدثت تغييرات عميقة جداً، قطعت مع إرث سابق، ثقافي واجتماعي وديني واقتصادي، وعليه، فالنقاشات العلمية مهمة في هذه المرحلة، لكي ينخرط الجميع في إنجاح «الرؤية» والمشاركة في دفع عجلة الإصلاح والتغيير نحو الأمام.

من جهة أخرى، هنالك تحديات سياسية وأمنية في المنطقة، سواء ما يتعلق بالحرب في اليمن، أو الملف الإيراني والتشكيلات المسلحة التابعة لها كـ«حزب الله»، فضلاً عن التحديات التي تشكلها تنظيمات مثل «الإخوان المسلمين» و«داعش» و«القاعدة»، وصولاً للفكر «الأصولي» الذي وإن كمُن وخفتَ صوته، إلا أنه لم يمت وبقي كـ«الجمر تحت الرماد»؛ وعليه، فإن مواجهة هذه التحديات تفرض على المثقفين والكتاب أن يكونوا على قدر كبير من الشجاعة العلمية والأدبية، كي يقاربوا الموضوعات هذه بلغة رصينة، شفافة، بعيدة عن الإسفاف، أو الشعبوية، وتعمل على صناعة وعي حقيقي بين الجمهور العام.

• لماذا يخشى بعض المسلمين الشيعة في الخليج من وضع «الشيعيّة السياسية» على طاولة النقاش؟

•• الخشية التي أشرت لها في سؤالك، لا تقتصر على المسلمين الشيعة في الخليج، بل موجودة لدى المسلمين السنة أيضاً. ومن الإنصاف القول إنها طبيعة بشرية، فأي تكوين بشري، يخشى النقد، يتوجس منه، ويعتقد أنه قد يؤدي إلى حدوث انشقاقات وخصومات، ويقود تالياً إلى الصراعات!

لأكن صريحاً جداً، هنالك نقادٌ لـ«الشيعية السياسية» لا يمارسون النقد، بل التحريض والتخوين والشتائم، وهم يعيدون إنتاج الخطاب الطائفي بصورة أخرى، أي يسبغون عليه لباساً» «مدنياً» أو «وطنياً» فيما هو خطاب إقصائي وعنيف لفظياً!

هذا الخطاب الذي يمارسه بعض الكتاب أو المعلقين السياسيين، يجعل جمهوراً عريضاً من المواطنين الشيعة يقلقون من ممارسة النقد، لا لكونهم لا يعتقدون بأهمية المراجعة الذاتية، أو لرفضهم مواجهة الأخطاء في بيئاتهم، وإنما لأن الأجواء العامة -بحسب وجهة نظرهم- لا تساعد على اجتراح أفكار نقدية حرة وعلمية. ومن هنا، يجب أن يكف هؤلاء عن التخوين والشتائم، إذا أردنا أن يشارك المواطنون الشيعة في عملية النقد بشكل أكثر فاعلية ووضوح.

من جهة أخرى، هنالك من يعتقد أن النقد سيوجه سياسياً أو حزبياً، لتحقيق أهداف تتعدى مسألة القراءة الفاحصة، وبالتالي سيتحول هؤلاء النقاد لجزء من جوقة دعائية تجيد الثرثرة، ولا تحقق أي تغيير أو تنوير حقيقي بين الناس، وهذا أمر يفقد النقد جدواه. دون أن ننسى أن هنالك ممانعين للنقد، لأنهم يريدون الحفاظ على مصالحهم، أو يريدون التحكم في مصائر الناس، أو إيماناً منهم بصوابية «الشيعية السياسية».

أعتقد أنه يجب أن تكون الأجواء أكثر سلامة وعلمية وبعداً عن التسييس والتمذهب، وفي الوقت ذاته على المواطنين الشيعة أن لا يقلقوا من النقد، وأن تكون النخبة على قدر كبير من الثقة والامتلاء العلمي والشجاعة، وأن تمارس هذه المراجعات بعيداً عما يريده المتحزبون أو الطائفيون، ويكونوا هم من يوجهون السفينة نحو وجهتها الصحيحة، أن يقودوا المشهد بذاتهم، دون أن يقودهم أحد، لأن الخروج من العزلة المذهبية لا يتم دون مراجعات يقوم بها أصحاب السردية ذاتهم.

• ترى أنّ كثيرين ممن ينقدون «الشيعيّة السياسية» يتعاملون معها بمراهقة سياسية وفكرية، ما تأثير هذه المراهقات الفكرية على هذا النقد؟

•• وسائل التواصل الاجتماعي، بقدر ما منحت البشر فسحة لحرية التعبير عن الآراء، إلا أنها جعلت «الشعبويين» وأشباه المتعلمين، وفاقدي الأهلية، يتصدرون المشهد، كونهم أجادوا استخدام هذه الوسائل في التسويق لأفكارهم، ويعرفون كيف يؤثرون على الجمهور ويسايرون غرائزه!

الغرائزية هذه، لا علاقة لها بالنقد، بل هي إعادة إنتاج للتطرف بصورة مختلفة، وخطيرة، لأنها أصولية مستترة!

النقد الشتائمي، هو إمعان في الضغينة، ترسيخ للكراهية، وتمزيق للمجتمعات، وتهديد للسلم الأهلي؛ ولا أبالغ إن اعتبرته إحدى الأدوات التي تستفيد منها الحركات الإسلاموية، وهدية يقدمها لها خصومها على طبقٍ من ذهب.

من هنا قلت إن كثيراً ممن ينتقدون «الشيعية السياسية» يتعاملون معها بمراهقة فكرية وسياسية، لأنهم غير واعين للأثر السلبي الكبير لعبثيتهم، التي عوض أن تقود لبناء وعي وطني، تعمل على العكس من ذلك!

• كيف يمكن للتغيير أن يكون مستداماً ومؤثراً؟

•• يمكن للتغيير أن يكون مؤثراً إذا كان منطلقاً من العلم، بعيداً عن سلطة الجماهير، غير باحثٍ عن مصالح حزبية أو سياسية، أو واقفاً على أرضية مهزوزة معرفياً. علينا أن نتعلم، نتواضع أمام العلم، وأن ننصف خصومنا، وحتى أعداءنا.

قد أذهب بعيداً وأقول: حتى القتلة يجب أن نقرأهم بتبصر ودون أحقاد، لكي نعرف مواضع القوة والضعف لديهم، فنحسن التعامل معهم، ونبعد خطرهم المميت عنا.

إذا بني التغيير على رؤية فلسفية، موضوعية، وكانت لدينا مراكز أبحاث تتمتع بالقدرة على التنقيب والحصول على المعلومات، وبناء التحليل دون انحيازات مسبقة، حينها يكون التغيير مستداماً.

لو أخذنا مثالاً على الملفات الملحة التي تتعلق بأمن المملكة العربية السعودية والخليج العربي، كالملف النووي الإيراني، والتنظيمات الأصولية، والحرب في اليمن.. وسواها، وبحثنا عن مراكز البحوث، أو بيوت الأفكار المختصة لدينا في السعودية، والقادرة على تقديم «تقدير موقف» ودراسات حقيقية جادة ورصينة، سنجدها نادرة، وقليلة جداً، ولا تتعدى بضعة مراكز تعد على أصابع اليد الواحدة.

هذا الخلل يجب أن يعالج، إذا أردنا للتغيير أن يكون مستداماً، لأن الإعلام والسوشال ميديا، لا يصنعون وعياً. وحدهم الفلاسفة والمفكرون والباحثون المتجاوزون للرتابة، والسياسيون الحاذقون، من يستطيعون تقديم أفكار تسبق أزمنتهم، وهذا ما نحن في أمس الحاجة له.

• لماذا ترى أنّ الطريق إلى ترسيخ المواطنة الشاملة صعبٌ وشاقٌ؟

•• ببساطة، لأن فكرة «الدولة الوطنية» لا تزال حديثة في الوطن العربي، ولم يؤسس لها بشكل جيد.

سأضرب مثالاً، الخطاب الديني السائد، وحتى القومي منه، يرون أن الحدود الجغرافية ما هي إلا خطوط وهمية، من صنع الاستعمار، وعليه، لا أهمية لها، ويجب أن نعمل على بناء «الأمة الواحدة»، عروبية كانت أم إسلامية، متجاوزين بذلك مفهوم «الدولة».

مادة «التربية الوطنية» عندما أدخلت للمناهج الدراسية في وزارة التعليم السعودية، جاءت متأخرة، وكانت توكل مهمة تعليمها لأي مدرسٍ، أي دون خبرات أو مهارات محددة، وكأنها حصة للتسلية وتزجية الوقت لا أكثر.

حتى عندما تم إعلان «اليوم الوطني» كحدث مهم تقام فيه الاحتفالات، وكإجازة سنوية، نُظر إليه من التيار «الصحوي» بوصفه «بدعة»، والهدف من ذلك التصويب على فكرة «المواطنة» ومفهوم «الوطن».

لا ننسى أيضاً، أن «المواطنة الشاملة» تعني الخروج من دائرة الهويات الضيقة، والانتماء للهوية الوطنية الجامعة. ذلك لا يعني أن يتخلى الناس عن مذاهبهم أو مناطقهم أو قبائلهم، وإنما أن لا تكون هذه الهويات «الفرعية» حاكمة، بل جزءاً من المكون الوطني العام.

«المواطنة الشاملة» تشترط المساواة، أن يكون الجميع سواسية أمام القانون العادل، وأن يكون هنالك تكافؤ في الفرص، ولا يقع أي تمييز على أساس مذهبي أو مناطقي أو جندري أو قبائلي، والناس في جزء منها تعتقد أن ذلك سيضر بمصالحها، لأنها تريد الاستحواذ لا الشراكة.

من هنا، الطريق طويل وشاق نحو «المواطنة الشاملة»، وهي أمرٌ حتميٌ لا مناص منه، وعلى المؤسسات الحكومية والمدنية التعاون من أجل تحقيق ذلك.

• ما مشكلة مشاريع حزب الله والإخوان المسلمين مع الدولة الوطنية ؟

•• مشكلتها أنها مشاريع تتجاوز الحدود، عقائدية، عابرة للقارات، وأيضاً مغلقة أمام التطور المدني.

أمرٌ آخر، هذه المشاريع لا تعترف بسلطة القيادة السياسية في الدول التي تنتمي لها، وإنما تعتقد أن الطاعة هي لـ«الولي الفقيه» كما في نموذج «حزب الله»، أو لـ«المرشد العام» كما في نموذج «الإخوان المسلمين»، ما يعني أنها لا تحترم قوانين أو دساتير البلدان التي تنتمي لها.

كون هذه الأحزاب ذات نشأة دينية، قائمة على اليقينيات والطاعة المطلقة، ولديها جانب عنيف في خطابها، سواء في استخدامها للسلاح أو حتى العنف اللفظي، كل ذلك، يجعل هذه الأحزاب أمام سؤال وجودي حقيقي: هل تريد أن تجعل المجتمع على شاكلتها بقوة السلاح والإكراه الديني، أم أنها تقبل أن تكون جزءاً من مجتمعاتها وتخضع لقواعد الديموقراطية والتعددية، وفق نظام كل دولة، وبالتالي تكون حركات سياسية، لا دينية، تحتكم للقانون، وتؤمن بحرية التعبير وحقوق الإنسان؟ هذه أسئلة حقيقية أشك في قدرة هذه التشكيلات على أن تجيب عليها بصراحة وشفافية؛ لأنها حتى الساعة ليست مؤهلة لأن تمارس أدواراً مدنية صرفة خارج عباءة الدين.

• ما الأثر الذي أحدثته أحزاب الإسلام السياسي في الدين ؟

•• أعتقد أنه أثر مدمر؛ لأنها حولت الدين إلى قوة بطش وكراهية، وجعلته مهدداً للسلم الأهلي.

المشكلة ليست في «أحزاب الإسلام السياسي» وحسب، بل حتى في رجال الدين التقليديين المتشددين، الذين يتبنون خطابات طائفية أو رؤية قاتمة للدين، ويريدون فرضها بالقوة.

إن الدين يفترض أن يكون رحمة للناس، وأحكامه يفترض بها أنها جاءت لتسهيل حياة البشر، لتجلب لهم المصالح، وتبعد عنهم المفاسد.

الدين كما أفهمه هو اندماج روحي، فلسفي، مع الكون. يجعلك تنظر بعين الرحمة والمودة والأنس مع البشر؛ لأن هنالك كينونة جامعة بين مختلف الثقافات والأديان.

لذا، يجب أن يتآزر الحكماء من أجل تحرير الدين من الخطابات العنيفة وكراهية الآخر، ونجعل الدين قادراً على أن يكون عنصر إثراء لحياة البشر.

• ما الواجب على الشباب في الخليج العربي إدراكه تجاه قيادات الإسلام السياسي الكبرى الشيعيّة والسنيّة؟

•• الأجيال الجديدة عليها أن تسأل نفسها: ما الذي تريده، هل تريد العيش في الماضي، وتحت سطوته، منشدة إليه وإلى آلامه وحروبه، أم تريد أن تبني مستقبلاً مستقراً حراً كريماً، وتشارك في عملية التنمية والتغيرات الحيوية التي تعيشها المملكة؟

هذا سؤال مصيري، يحدد وجهة الأفراد، ويجعل خياراتهم أكثر وضوحاً.

إن الطريق نحو المدنية والحداثة، بالتأكيد لا يمر عبر أحزاب الإسلام السياسي والمليشيات، وإنما من خلال الاستقلال الفكري والرؤية النقدانية وإعمال العقل، ورفض وصاية هذه الأحزاب أو سواها من التيارات الأحادية والشمولية.

لقد خطف التيار المتشدد المجتمع لأكثر من أربعة عقود، وعلى الجيل الجديد أن يستفيد من التغيرات الكبيرة التي تجري في السعودية، وأن لا يكرر تجارب الأجيال السابقة التي تضررت جراء خطابات الحركات الأصولية، وذهبت في مغامرات لا محسوبة، أدت إلى انخراط بعض السعوديين في حمل السلاح والقيام بأعمال عنف وإرهاب أو الذهاب للقتال في سورية والعراق وسواها من الأوطان التي للأسف دمرت بسبب الأصوليات الدموية.

• علام تراهن لتجاوز هذه التحديات؟

•• أراهن على «سيادة القانون»، وترسيخ قيم «المواطنة» و«التعددية» و«احترام الآخر».

لا يمكنني المراهنة على طيب نيات الناس، مهما كانت حسنة؛ لأن القانون هو الذي حمى الدول المدنية في أوروبا وكندا والولايات المتحدة ونيوزلندا وأستراليا، وسواها. ودون وجود قانون حديث، مرن، يكرس المواطنة الشاملة، ويجرم الخطابات العنصرية والكراهية والتمييز الطائفي أو العرقي أو الجندري، ستعود المجتمعات لتكرر أخطاءها.

من المهم هنا، أن نركز على التعليم، ليس من خلال ما هو موجود حالياً، وهو للأسف تعليم رتيب، بل عبر استحداث مناهج حديثة تربي الأطفال والمراهقين على قيم حقوق الإنسان، واحترام الآخر، ونبذ العنف، وأهمية التعاضد بين البشر والتعاون والتكافل، ليس من خلال الوعظ، بل عبر تعليم عملي حديث، وبناء نماذج حقيقية.

• كيف يمكن تفكيك منظومة الخطابات المتطرفة؟

•• هذه عملية معقدة، تحتاج سنوات، ولا يمكن أن تتم بين عشية وضحاها.

لسنوات طويلة، بل لعقود، كانت الخطابات المتطرفة تغذي عقول الناس، وكان من يعارضها يرمى بالبهتان، وبسبب عاطفة الجمهور، سيطر كثير من هؤلاء المتطرفين على قطاعات واسعة.

حتى من هم الآن ضد التطرف، هم متأثرون بخطابها لا شعورياً في دواخلهم، وهذا الأمر ينطبق على جميع المذاهب الإسلامية دون استثناء.

من هنا، يجب أن لا يكون هنالك مقدس في النقد، أو خطوط حمراء، تمنع إعادة قراءة الخطاب الديني والنصوص المؤسسة له، بل من المهم أن يتم إعادة إنتاج فكر جديد، ينقض المقولات العنيفة السابقة، ويرسم ملامح رؤية دينية متسامية، روحانية، قادرة على البقاء في العصر الحديث.

في أوروبا، بذل الفلاسفة الكثير من الجهد، لكي يسائلوا مقولات «الكنيسة»، ودفعوا ثمناً غالياً من أجل ذلك. وأعتقد أن علينا أن نتحلى بالشجاعة الأدبية والعلمية، وندفع الثمن. فتفكيك المنظومة الراديكالية ليس بالمهمة السهلة أبداً.

• هل ما زال الناقد لحركة الإسلام السياسي (شيعية وسنيّة) عرضة للترهيب والاغتيال المعنوي؟

•• طبيعة الناقد، أن يكون عكس السائد، رافضاً لأن يصبح ضمن العقل الجمعي؛ لأنه يؤمن بالحرية الشخصية والفردانية وحقه في إبداء الرأي. من هنا، سيكون بالتأكيد عرضة للترهيب والرمي بالبهتان والاغتيال المعنوي، وهذا أمر طبيعي جداً في كل المجتمعات.

عندما تخالف رأي الأغلبية، سيقف هذا الجمع ضدك، ويتساءلون: ما الذي تريده، وأي شيء ترومه من عملك؟

حتى الطيبون، الناس العاديون، أنقياء السريرة، قد يقفون ضدك، اعتقاداً منهم أنك تشق العصا، وتمزق المجتمع، أو في أحسن الأحوال خوفاً عليك من الحجارة الصلدة التي ستقذف بها.

رغم ذلك، على الناقد أن لا يستسلم، أن لا يضعف، وأن لا يتراجع، دون أن يعني ذلك أن يكون وقحاً أو متكبراً أو غير مستمع للرأي الآخر، بل عليه أن يصغي للجميع، وأن يؤمن بأن آراءه التي يطرحها قد تكون صائبة وقد تكون خاطئة، وأن من حق أي فرد الرد عليه بعلمية وموضوعية.

الممانعة المجتمعية مع الوقت ستخف، وسيرى النقاد الحصيفون، الصابرون، أن الأفهام بدأت تتسع، وأن الكثير من الناس أخذوا في الخروج من دائرة الخوف، وأصبحوا أكثر شجاعة في قول رأيهم، ومراجعة سرديتهم، وهذا هو الأهم.