-A +A
كمال العيادي الكينغ
في فترة حالكة من تاريخ مصر، إثر هزيمة 67، أصدر الرّئيس جمال عبدالناصر قرارا رئاسيّا في مُنتهى الغرابة، ويتمثّل في منع تبادل النّكت في الشّوارع والمقاهي ومؤسّسات الدّولة. وبالطّبع لم ينجح في ذلك، لأنّ النّكتة والاستعاضة عن التّصريح بالتّلميح، تمثّل أحد ثوابت تركيبة المُواطن المصريّ. وكونِي عشتُ عشر سنواتٍ في مصر، فأنا على دراية بشدّة القرابة والتّشابه بين مزاج المصريين ومزاج التّوانسة، فالتّونسيّ أيضا من طبعه حبّ نشر البهجة والمرح وتلطيف الجوّ كما يقال، والنّكتة تلعب دورا هاما في حياة التوانسة. وعموما، كلّما وجدت بلدا عربيّا يعجّ بالمقاهي، فثق أنّ النّكتة تحومُ حول الطّاولات، فالمواطن البسيط المهموم بارع في اقتناص اللّحظة والموقف وتحويله إلى نكتة، ولكن الغريب في الأمر، وبقدر ما أبدع المُواطن التّونسيّ البسيط في ابتكار النكتة الألمعيّة الطازجة على الدّوام، فإنّنا لا نجد في الأدب التّونسيّ ومن بين الكتاب التونسيّين، غير قلّة تعدّ على أصابع اليد الواحدة من الذين تخصصوا في الكتابة الساخرة ويمكن أن تعوّل على وليمة من البهجة والمرح الألمعيّ وأنت تقرأ لهم. العكس هوّ الصّحيح، فأنت تجد أنّ أغلبيّة كتّاب تونس متجهّمون في نصوصهم، وتشعر بفظاظة ووحشة وغلظة وأنت تنزل ضيفا على منجزهم وتدوّر عن ضوء بين دفتي أغلفة كتبهم. فالشعر مجزرة ودموع وقلوب محطّمة ونقاط استفهام وتعجّب متتالية وخراب وحنظل والسّرد عذاب، عذاب، عذاب.. حتّى أنّي والله أدعو ربيّ في صلاة استخارة كلّما وصلني عبر البريد كتاب جديد من صديق قديم. وأنا قارئ نهم. ولكنّني لست مازوشيا، وأرتاح كثيرا للكتابة الساخرة البسيطة العميقة، ولقد كنت أبكي بالدّموع ضحكا وأنا أقرأ نوادر محمدّ الماغوط أو بيرم التّونسي أو حتى إيليا أبو ماضي وأمل دنقل وغيرهم من العباقرة، ونحن جميعا نعرف أيّ ضنك وأيّ مرّ كانوا يتلمّظون.

كنتُ أحبّ سخرية أولاد أحمد في نصوصه الإيرلنديّة المبتورة، ولكنّ أولاد أحمد رحل عنّا بعد أن شوّشت انحرافات الثورة مزاجه وأسلوبه البديع.. وكنت أستلطف أسلوب توفيق بن بريك، لكنّ توفيق بن بريك مشغول عن نصوصه بسيرك السياسة والإعلام، ويا ليته كان يلعب دور المهرّج على الأقل ليضحكنا، هو يصرّ على لعب دور الأسد الغضنفر المستوحش، والجميع يراه يلعب دور قرد ملدافي بعجيزة حمراء.. ويا كم كنت أعود وألوذ بجيل العمالقة والرّواد في مجال الكتابة الساخرة في تونس، سيدي علي الدّوعاجي والبشير خريف ومنوّر صمادح وصالح القرمادي وحتّى محمّد قلبي الذي ما زلت أحتفظ بأغلب بطاقاته الصحفية الومضة حتى اليوم في ألبوم خاص وعزيز على قلبي. كانوا يكتبون بصدق وبساطة وسخرية مرارتها حبلى بالعسل مثل رحيق الزّهر، لكن سمّ لي الآن كاتبا تونسيّا واحدا يمكن أن تكمل قراءة كتابه حرفا حرفا دون أن تغشّ في طيّ الصفحات واستعجال نهايتها قبل أن تجهز عليك بمرارتها وتجهّمها وبلادتها وثقل دمها وعسر هضمها.


أنا انتبهتُ مبكّرا جدّا لهذه المسألة. ثمّة شيء فاسد في المزاج عند أغلب المبدعين التوانسة. وثمّة خلط مؤسف بين الاستحضار الملهم والتلبّس الأخرق، ولذلك حاولت بكلّ قسوة أن أتجمّع قبل أن أتبعثر، وأن أنقذ مشروعي الإبداعي وقلمي من الاستهلاك اليومي، وأقسمت أنني لا أنشر نصا لا يُضحكني أو يبكيني أنا قبل القارئ. الكتابة عندي تجديف منهك في سبخة القاموس، للوصول لأعمق وأنقى نقطة فيها. هذا صحيح، لكنّها أيضا حرث في رحم أمّنا الدّنيا. وأنا أحلم أن أنجز ولو ربع ما أنجز معلّمي الأعظم والوحيد، وهو شارلي شابلن، وأن أكون بسيطا وعميقا ومفيدا مثل حبّة قمح حبلى بالحياة والنّور والأمل.