-A +A
عبدالله إبراهيم الكعيد
يُقال تأسفاً وشفقة «لقد أدركته حِرْفَةٌ الأدب» يقصدون من وقع في غرام المفردات وهام بعذب الكلام وأضحى يلتهم ما في بطون الكُتب نهاراً ليعكف على نسج أفكاره ليلاً فيرقنها على الورق ثم تخرج على هيئة رواية، قصة، قصيدة أو مقالة، واستناداً على تلك المقولة أقول نعم، فالكاتب لا يكتفي بعدها وينصرف إلى روتينه اليومي والغرق في تفاصيل حياته الخاصة كما هو حال عامّة الناس لأنه (لمن لا يعرف حاله) يخرج من فخ طلب الكتابة ليقع في مأزق المزاج.

الأمريكي «أندرو شافر» مؤلف كتاب (كُتّاب مشردون، تاريخ فاضح لكُتّاب متمردين) منشورات صفحة سبعة للنشر والتوزيع، يصف الكتابة بأنها حرب طاحنة ولم تكن في يوم تتويجا ملكيّا لمن أهدروا حياتهم خلفها، وأن الكاتب مقاتل وضحية، وهو القاتل والمشرّد وبائع الورد وتاجر الأسلحة ومُدمن الكحول.


أما لماذا اشتغل السيد شافر على هذا الكتاب فيقول إنها محاولة لتصحيح فكرة الرفاهية التي تُسيّج عقول الكتّاب وقُرّاء الأبراج العاجيّة المهدورة..

على أية حال...

أعود للسؤال الأساس هل يركن الكاتب للدعة والاسترخاء بعد أن يضع النقطة بعد آخر جملة كتبها؟ أقصد هل يتخلّص من الهمّ الكتابي حالما ينتهي مما كان يكتبه؟

الشغيّلة في مناجم الفكر والكلمة ومنتجاتها لا يتوقفون أبدا عن الحفر والتنقيب سعيا وراء إشباع نهم لا ينتهي ولو أصيبوا بالتخمة في يوم (لا يحدث هذا غالبا) فسوف تصاب محركات الحفر للعطب وبالتالي يتم إقفال أو ردم المنجم وينصرف أولئك الشغيلة لبيع الخيار أو (شاهي جمر) على ضفاف طرق العابرة من البشر! قلت إن الكتابة فخ وما زلت أؤمن بهذا سيّما وحال كاتب هذه السطور ينطبق عليه مقولة (صيّاد رحت أصطاد صادوني).

ورد في سيرة كُتّاب سبر أغوار حياتهم المؤلف (شافر) كانوا بالنسبة لنا معشر القُرّاء قبل أكثر من نصف قرن أو يزيد، أساطير لا يشوبها شائبة ونماذج مثقفة كُنا نظن حينها باكتمال مثاليتهم وتقلّبهم في النعيم ثم عرفنا بعد أن انكشف المستور في الكتاب إياه بأنهم تعاسة تأكل الطعام وتمشي في الأسواق! أحد هؤلاء التُعساء الكاتب الأمريكي الشهير ارنست همنغواي صاحب رواية «الشيخ والبحر/‏1952» الذي كتب خطاب تسلّمه جائزة نوبل في الآدب بدقيقتين قائلاً: «لقد تحدّثت لفترة طويلة عن هويتي كاتبا. ينبغي على الكاتب أن يكتب ما يقوله، وألاّ يٌفصح عنه». هذا الاعتراف حسب رؤية شافر كان حلوا ومرّا في آن إذ أضحت الكلمات أشدّ صعوبة على همنغواي الغارق في ضبابه الخالي من الكحول، وقد فكّر كثيرا في ترك القلم. هل استطاع؟ لا لم يستطع.

بعيدا عن نهاية همنغواي الحزينة والمؤلمة وغيره مثله من الكُتاب وشغيّلة مصانع الكلام الذين تنزهوا في بستان المفردات المليء بالألغام وكانت نهايتهم صادمة لمعجبيهم يعود السؤال مرة ومرّات: هل الكتابة أيّاً كان (لونها/‏فنّها/‏ تصنيفها) تعتبر نزهة، شهوة، رغبة، ممارسة ممتعة، تفريغ احتقان، أم أنها -حسب الكاتب ذاته (شافر) الأمريكي- مرض مُزمن لا يمكن للكاتب الحقيقي أن يبرأ منه إلا بمزيد من الكتابة أو بالركض كالمجنون في الصحاري القاتلة أو الغابات الموحشة والجسور المٌعلّقة؟ قلت لا بُرء ولا براءة.

قبل الخاتمة وبعدها أرجو ألا يظن من يقرأ كلامي هذا بأنني أُحذّر من الدخول إلى بستان همنغواي و(ربعه) والتنزه في الأماكن التي مرّوا بها وقطفوا من المفردات الزاهية التي ما زلنا ننعم برحيقها كقرّاء، ولكن رأيت من واجبي أن أذكّرهم بثمن تذكرة الخروج لا الدخول.