د. محمد السعودي
د. محمد السعودي
-A +A
علي الرباعي (عمّان)
أثار الناقد الأردني الدكتور محمد السعودي، بطرحه قضية تأثر الشاعر محمد درويش بتجربة الشاعر محمد الثبيتي المنشور في «عكاظ» منذ أسبوعين، ردود فعل بعض النقاد السعوديين والعرب، وتجاوزت مقروئية المادة 17 ألف قراءة على الموقع، وما زال التفاعل قائماً، خصوصاً أن البعض طالب بشواهد على التأثير والتأثر، وهنا نطرح الموضوع مجدداً على صاحب (مقام التلّقي) لنتعرف على أبرز قضاياه النقدية، ومحفزات تتبعه للإبداع السعودي والعناية به، وإليكم أبرز ما دار في الحوار:

• هل أثر الشاعر الثبيتي في نص الشاعر محمود درويش؟


•• درويش أفاد من تجربة الثبيتي، والثبيتي شاعر كبير، وعميق التجربة، ومرهف الإحساس ويمتلك أدوات الإبداع بل تجاوز القامات الشعرية الكبيرة، لكنه لم يحظَ بدراسات نقدية عميقة، تدلل على هذه التجربة، ومثال التأثر والإفادة حاضر في ذهني منذ زمن، فالثبيتي قال قصيدته (قرين) قبل قصيدة درويش (الآن في المنفى) بفارق زماني، فوقعت على قصيدته الآن في المنفى، وكنت قرأت لمحمد الثبيتي قصيدة قرين فأثّرت فيَّ، عندما كنت شاباً صغيراً، وظلت في ذاكرتي، فأخذت بالمقارنة بينهما، القافية هي القافية، درويش ذكر القمر، والثبيتي ذكر البدر، درويش أشار إلى قصة يوسف عليه السلام، والثبيتي أشار إلى يوسف عليه السلام، التكثيف هنا، والتكثيف هناك، الأساليب الشعرية خصوصاً في أدوات الربط تماثلت هنا وهناك، ومرّة أخرى ليس انتقاصاً من أي تجربة عندما نقول تأثر فلان بفلان.. وتجربة الشاعر الكبير محمود درويش، تجربة رائدة فقد أدرك العقل والإحساس وماهية الشعر، حتى أنني كتبت فيه بحثاً محكماً في ديوانه كزهر اللوز أو أبعد، فاحترت في الأمر فجعلت العنوان بين درويش والثبيتي ولم أجزم في العنوان كما جزمت في العناوين الأخرى في الكتاب، أن أقول أثر أحدهما في الآخر بل حللت ذلك وتركت الحكم للمتلقي.

• لاحظت استعمالك مفردات تأثير السيّاب على القصيبي، فيما عنونت لدرويش والثبيتي بمقارنة نصية.

•• نعم عنونت بمقارنة نصية، وسبب ذلك أن التأثير الذي كان بين القصيبي والسياب تأثير واضح جلي، والتأثير الذي بين درويش والثبيتي يحتاج إلى كثير من التأمل والاستقصاء. وقدمت هذه الفكرة في قصيدتين بين شاعرين، التوافق الذي حدث هذا ليس من باب أن درويش يتكئ على الثبيتي أو الثبيتي يتكئ على درويش، إنما هي مثاقفة بين نصين. هذا ما أردت، لكننا في ثقافتنا دائماً نقف كثيراً نحن العرب عند الانتصار والمنتصر والمنهزم، وأنا لا أعامل النصوص بأنها انتصار أو انهزام إنما هي مثاقفة.

• كيف نبدد سوء الظن بأن التأثير سطو أو اختلاس دون علم الطرف الأول؟

•• التأثير ليس سطواً أو سلخاً أو إغارة كما قال النقاد العرب القدماء، إنما هو صورة إيجابية للمثاقفة فالفكر الإنساني تراكمي وليس فردياً ولم يقل ناقد أو مفكر في حدود معرفتي أن التأثر والتأثير اختلاس أو سطو تلك أسس وقع الحافر على الحافر. ولا ندخل في هذا، هذه أساليب نقدية وقف عندها النقاد العرب سابقاً، وأنا لا أجنح لهذه المسميات إنما هي كما قلت لك مثاقفة، لا يعتلي أحدهم على الآخر إنما يكمل الآخر نريد لهذه التجربة الشعرية الناضجة أن تتقدم في نفوس المتلقين وأن ترسم معالمها بصمت إبداعي مدهش.

• بحكم اشتغالك عن الأسطورة، هل تعد تجربة الشاعر محمد الثبيتي أسطورية أو مائزة عن كل ما عداها؟

•• لا شك أن تجربة محمد الثبيتي تجربة غنية وعميقة ولها حضورها في الواقع العربي اليوم، وكل من واجهته من المبدعين والنقاد العرب عندما يذكر الثبيتي يذكر إبداعه وطرائقه الجديدة في الشعر، ولتجربته دوافعها النفسية والاجتماعية والفكرية والحضارية، وأقول إن هذه العناصر مكتملة في تجربة محمد الثبيتي، إلا أنها ليست أسطورة إنما هو واقع استطاع أن يعالجه من خلال الإبداع وهذه هي قدرات المبدع.

• هل هي تجربة متميزة؟

•• طبعاً تجربة محمد الثبيتي متميزة، ولا أحد من النقاد يقول غير ذلك، فهو يمتلك الأدوات الإبداعية وله نظرة حقيقية للكون والإنسان.

• ألم تخش غضب شريحة عربية عريضة لا تتقبل أن يكون للبدوي الثبيتي تأثير على درويش المدني؟

•• لا أخشى المحبّ، وله عذره كما أن لي عذري النقدي، نحن نحاكم نصوصاً بين أيدينا ولا نحاكم عواطفنا، وحتى لو كان الثبيتي ودرويش مكاني لا ينظران بهذا الوصف للتجارب الشعرية. التجارب الشعرية هي تجارب غنية خصوصاً عند الشعراء الكبار فلا أحد يقول غير أن محمود درويش هو علامة فارقة في العصر الحديث وهو قامة شعرية سامقة استطاعت أن تجعل حولها المريدين واستطاعت أيضاً أن تكون غيمة يستظل كثيرٌ من الشعراء بظلالها بأفكار هذه التجربة وبنظرتها للكون وللإنسان وسيبقى خالداً لأنه حمل القضية الأم للقضايا العربية وهي القضية الفلسطينية، ولكن هذا لا يمنع من وجود تجارب شعرية غنية أخرى مثل نزار قباني، والثبيتي وخوجه والقصيبي ودنقل وعدوان وغيرهم ولا يمنع التأثر والتأثير بينهم.

• متى بدأت عنايتك بالمنتج الإبداعي السعودي؟

•• في المملكة العربية السعودية تجربة إبداعية عميقة قديماً وحديثاً، ولكن ما ينقص هذه التجربة اليوم حركة نقد موازية تبتعد عن المجاملات وتدخل في عوالم النص، كما فعل ذلك الدكتور عبدالله الغذامي، وميجان الرويلي، وسعد البازعي وغيرهم من النقاد، وكانت بدايات تواصلي بتجربة غازي القصيبي وبخاصة عندما كنّا طلبة في تسعينيات القرن الماضي إذ اجتاحت أشعار القصيبي ساحات المدرجات والمسارح بين الطلبة الأردنيين تلا ذلك تواصلي بتجربة الثبيتي العاصفة بالنسبة لي بما تحمل من صدق وعمق فكري، ومناقشاتي العلمية في تجربة الشاعر عبدالعزيز خوجة.. ناهيك طبعا عن حفظنا في بيئاتنا الأردنية شعر الأمير خالد الفيصل والأمير بدر بن عبدالمحسن وصالح الشادي وغيرهم.

• لماذا كانت أول دراستك عن السياب والقصيبي؟

•• لا شك أن تجربة القصيبي تجربة رائدة عربية فيها الصورة المذهلة والإيقاع المدهش وفيها المعاني التي نسجت بألفاظ كالعقد، شعره خفيف يدخل القلوب في الغزل أو الأغراض الأخرى، وأن يسترشد بالسيّاب فهذه سمة رفعت من قدرة التجربة الشعرية لديه؛ ولذلك لم نقل يوماً أن القصيبي كان عالةً على السيّاب، بل إنه أفاد منه واختط طريقاً إبداعياً عرف به، فما إن تقرأ نصاً إلا أن تقول هذا للقصيبي وهذا للسيّاب، وهذا ما أردته في قضية التأثر والتأثير، ليس تفضيل شاعر على شاعر، وإنما النظرة الإيجابية بأن هذا التداخل يظهر التجربة الشعرية ويرفع من قدرها في النفوس.

• كيف ترى واقع النقد؟

•• يشهد النقد اليوم ارتباكاً في المعالجات النصية، والبعد عن التجديد العربي الخالص، ويعتمد على اقتفاء أثر النقد الغربي؛ فنحن واقعون بين الترجمة أو القص واللصق وهذا في مستقبل الأيام لا يفيدنا ولا يبني نظرية نقدية عربية خالصة كما بيّن عبدالعزيز حمودة ذات يوم، فنحن ما زلنا نجتر ما ألّفه القدماء وكانوا حقاً متميزين فيه وفي جرأة طرحه.

• ما أثر نقد الإشادة والمجاملات على التجارب الإبداعية؟

•• أصبح هذا الأمر واقعاً، ويعلمه غير أهل النقد والإبداع أيضاً فللأسف ثمّة تجارب شعرية ونثرية كثيرة ضاعت بين الأدراج وفي الغرف المظلمة لما يسمى بشلليات الأدب والنقد والجوائز، ثم إنّ الجرأة المطلوبة في المعالجات النصية مفقودة ويستهجنها كثير من الناس في مجتمعاتنا ومن أهل المعرفة والفكر أيضاً.

• يلاحظ القارئ لمنجزك النقدي اشتغالك على التأثر والتأثير، هل هي ثيمة خاصة؟

•• هي ليست ثيمة خاصة، إنما جهد نقدي تحولت إليه بعد تجربتين في النقد، التجربة الأولى: عندما كتبت ظواهر أسلوبية في شعر ممدوح عدوان، والتجربة النقدية الثانية: الحركة النقدية حول تجربة أمل دنقل. وهاتان التجربتان النقديتان ألمحتا لي عن التداخل في النصوص بين شعراء الجيل الأول في التجديد والجيل الثاني، ثم إن التأثر والتأثير ليسا عيباً أو سمةً سلبية، فأنا أنظر إليه بأنه أعلى درجات الإيجابية بين المثقفين، وعلى المدى البعيد سيظهر هذا التلاحم صورة أدبية ناصعة للأدب في القرن العشرين والواحد والعشرين، وإن لم نقم بهذه المراجعات النقدية ستبقى حركة الإبداع على رتابتها، ولن نستطيع المساهمة في استحداث طرائق جديدة لإبداعاتنا الحاضرة.

• ما الذي ستبهجنا به من دراسات مستقبلية؟

•• أعمل الآن على مراجعات نقدية لمصطلحات النقد القديم والحديث، وأحاول البحث في تجارب الشباب العرب في الشعر والرواية. فلدي بعض التجارب الإباعية في فلسطين ومصر ولبنان وسورية والعراق وفي الأردن أيضاً والسعودية وهناك شاعر جديد عرفته حديثاً في السودان. هذه الموجة الشبابية وهذه التجارب وغيرها لا بدّ أن نقف بجوارها ونقدمها للمتلقي في دراساتنا. وهذا حمل كبير على الصحافة اليوم وعلى المثقف نفسه أينما وجد فالبحث يظهر طرائق النسج فيها ويكشف دربة صاحبها ودرايته.