دومينيكو بيسانا
دومينيكو بيسانا




غلاف الرواية
غلاف الرواية
-A +A
دومينيكو بيسانا «شاعر وناقد إيطالي» ترجم القراءة من الإيطالية للعربية: د. وفاء البيه
شعر رقيق النبرات، تأملي المسار، يرتكز على أبيات متعددة الموضوعات، ذلك الذي يقدمه الشاعر العربي علي الحازمي للقراء في مجموعته الشعرية «وشم الفراشة»، التي ترجمتها عن الإنجليزية في إيطاليا الشاعرة كلاوديا بيتشينو، ونشرتها دار «Il Cuscino di stelle».

إنها مجموعة تحوي بالفعل -منذ العنوان- تصريحا منظوريا دلاليا، نظرا لأن الفراشة تعتبر في الخيال الجمعي رمزا للجمال الطبيعي والحرية، وهي ترتبط بالأنوثة، كما أنها تمثل في الطبيعة رمز التحول، وتشير لكل ما يغير، ويحول، و«يعيد إنتاج» نفسه. يسافر الشاعر بحرية في أغوار حياته، مختصرا المسافة بين الإنسان الذي يكمن بداخله، والمجتمع. يعترف علي الحازمي بمكنون نفسه، وكأنه في حال تأمل مؤلم، محولا من المعاناة العميقة، التي لا تخصه وحده، لكنها معاناة الإنسان العالمي، في محاولة لصياغة إجابات تشفي قلق الأسئلة الوجودية: «..أحنُّ لصورتي /‏‏ لربيعِ مَعنَايَ الذي غَادَرتُهُ /‏‏ حينَ ارتحلتُ إلى مجازِكَ في البعيد /‏‏ كُنتُ التقيتُكَ لو أَطَلْتَ السيرَ نحوَ عواطفي /‏‏ وهَمَسْتَ في أُذْنِ السرابِ بجملةٍ /‏‏ في الحُبِّ تَأخُذُني إليكَ..» في وشم الفراشة»، بينما هو يتكئ على الذكريات الأبوية التي ظلت راسخة طيلة المسير: «... أبي المريضُ تبددتْ أحلامُ رحلتِهِ الأَثِيرَةِ بَاكِراً /‏‏كَلَّتْ يداهُ على جَبينِ الطينِ /‏‏ في قَيْظِ المواسِمِ حسرةً /‏‏ صَرَعَتْهُ أُمِّي حينَ مَاتتْ فجأةً في الحقلِ /‏‏ قُرْبَ ظِلالِهِ /‏‏ مَاتتْ كموتِ غزالةٍ مغدورةٍ...».


إن وشم الفراشة هو نص شعري يستشعر الفجوة بين السلوك البشري العادي، وعذاب الأسئلة حول معنى الحضور والوجود؛ تلك الفجوة التي يتأملها الشاعر في عزلة: «أَنا معي /‏‏ أَنا اعتدادُ التيهِ في البيداءِ /‏‏ أُشرِعُ في المدَى المفتوحِ أَذرُعَ مُهجتِي /‏‏ لعناقِ من أَهوى»، وهو يتوجه باستمرار إلى «مخاطب» يحمل ملامح نسوية، يقدم له صوته، في صور عذبة، وصياغة شعرية رقيقة الإيقاع الموسيقى: «وأَنا وأَنتَ تشابهُ المعنى البعيدِ وضِدِّهِ /‏‏ بالكادِ يجمعُنَا التباسٌ في العزوفِ /‏‏ عن التهافُتِ في الصدى /‏‏ جَرَّبْتُ أَنْ أُصغِي لصوتِكَ /‏‏ حين يخرُجُ من عباءةِ تِيْههِ /‏‏ فامتدَّ غُصنٌ للتساؤلِ عن برارِي ما انتهينا إليه في دربِ السماء /‏‏ أيكونُ أَنتَ وقعتَ سهواً في مَداري /‏‏ ولم أُراعِ فارقَ التوقيتِ بين ولادةِ النجوى وموتِ مباهجي ؟! أَيكونُ أَنْ أَحياكَ ثانيةً وأَنتَ هُناكَ /‏‏ في الماضِي تَقُصُّ على الغزالةِ /‏‏ بعضَ ذكراكَ الجميلةِ دونما أَثرٍ /‏‏ يدلُّ على وجودِكَ في دَمِي ؟!» (دلني صوتي عليك).

يعتبر هذا الصوت هو السمة الأساسية لحياة الذات الواعية، والتي تتجسد -كما يقول توما- في «الرغبة في خير غائب»؛ يتردد صوت علي الحازمي، المندمج في لوحة فسيفساء تشكلها المناظر الطبيعية والصور («حمام مرتحل»، «نخيل»، «قمر»، «بحر»، «شواطئ»، «سحب»، «أشواك»، «أوتاد»، «نوارس»، «رغبة»، «ضربات أجنحة الفراشة»، «قبلات»، «ورود صامتة»، «بتلات متشابكة»، وغيرها) في «واقع إشاري»، محيلا إلى شيء آخر، أو بالأحرى، إلى ما يتجاوزه؛ وهكذا يولد من هذا الصوت «معادل» قوي لشعر يدعو المؤلف من خلاله القارئ إلى السعي نحو أفق ما وراء شعري.

تحملنا فراشة علي الحازمي الموشومة إلى التفكير في قبرة باسكولي؛ فإذا كانت القبرة بالنسبة للشاعر الإيطالي تمثل رمزاً للرجل الذي يتجه إلى الله، وينصرف للثناء عليه، فإن فراشة الحازمي تصبح رمزا لرؤية حياتية تسعى إلى الحرية، والجمال، والحب، والحلم، ونموذجا لحالة علائقية غالباً ما تكون صعبة ومعقدة: ربما يرغب الشاعر في أن يكون تلك الفراشة البراقة، يتكئ إلى الزهور الملونة، ويتنفس رائحتها، لكنه يعلم أنه يجب أن يأخذ الأرض في حسبانه، حيث تدور أحداث حياة تمتلئ باللقاءات، والتجمعات في الميادين، وإحساس بالإحباط، وسوء الفهم، وعلاقات محطمة، ولقاءات مقدر لها النسيان، وأحلام، وتغييرات، وأحداث غير متوقعة، وإشباع غريزي، وآمال، وذلك التغير والتحول الذي يصبح محورا لواقعية تشير بإصبعها لـ«خلود» الحياة اليومية: «سأصغي لشلال عينيك حين يضوع بجدول قلبي/‏‏ سأسمعه نغماً يتهافت فيَّ رذاذاً /‏‏ يوزَّعني في جهات تطل عليك /‏‏ وأنت تنامين في قبلةٍ من حرائر عالقةٍ في دمي /‏‏ من زجاجٍ سميك بواجهةٍ لمحل الزهور القريب /‏‏ يطيل البنفسج تحديقه في اخضرار عيونهما /‏‏ حيث للتو من قبلة قد أفاقا /‏‏ قبيل انسكاب الشفاه الشفيف لقاع قصيِّ بقلبيهما /‏‏ البنفسج لولا الزجاج لمدَّ لكفيهما غصنه» (تعارف).

هنالك صمت يطوق شرق المدينة، عند المساء.. /‏‏ وحين تعيد الشوارع أقدام أصحابـها /‏‏ من مواعيد بائسة في الشمال /‏‏ تظل مؤجلة بالميادين أنقاضَ عطر غرام /‏‏ تجوس الممرات في خيبة.. /‏‏ أو تمهد لليل معنى التساؤل /‏‏ في شفة تضطرب (ميادين).

رصيفٌ ينام إلى صبية دثروه /‏‏ بحرقة أجسادهم من صقيع المساء /‏‏ برغم انسحاب جلودهم من رهان البقاء /‏‏ ودون اكتراثٍ لكومة أبدانهم في حريق العراء /‏‏ على عجلٍ تنحني لليمين /‏‏ وعند محاذاة أحداقهم تبصق العربات /‏‏ ببركة ماء -تجمع قرب الرصيف- السبات /‏‏ الذي أودع النجمات بقاعٍ حليمٍ بأرواحهم /‏‏ مشهد فوضوي يطيل التماع التعاسة في نـهر أعينهم /‏‏ كلما لامس الحلم محض أمان لهم/‏‏ وأرادوا بخيبتهم بسط ذيل عباءته حولهم /‏‏ تنحني العربات على عجل باتجاه اليمين.../‏‏ وتلفي بحضرتهم ظل سوط كفيف /‏‏ يُسمى العذاب... (سوط). اللواتي استندن لأعمدة النور /‏‏ آخر هذا الممر نساء يعشن الهوى /‏‏ في اشتهاءٍ ذبيح /‏‏ وينشدن في وقتهن غياباً يواري /‏‏ عذابات أرواحهن الرهيفة /‏‏ حين استبدَّ الزمان بأقمارها في خزائنه /‏‏ حيث يهزمن في رجل يتلوى /‏‏ بجمر أسرَّتهنَّ رجالاً تخلوا /‏‏ وفروا بوردة أحلامهن بعيداً /‏‏ لذلك يعددن فخاً مهيباً لمن يعبرون /‏‏ بعرض حرير بضاعة أجسادهن /‏‏ ودلق هديل من الكلمات المثيرة /‏‏ في دربهم.../‏‏ حيث قد يسقط البعض في بؤس أزهارهن /‏‏ إذا ما استجاب لخيط انتشاء شفيف /‏‏ تسرَّب من دون علمٍ إلى قدميه (عبودية الغريزة).

في التجلي الإبداعي لهذه الأبيات، يوجد بالفعل حشد من التطورات الإيقاعية الدقيقة والمدروسة، ونلاحظ الاتجاه إلى نظام صرفي يبرز تجاوز حدود الزمان والمكان للوجود البشري. وهكذا يدمج علي الحازمي في الشعر أفكاره، واقتراحات الأنا المتأملة الأكثر عمقا: «تُحرِّضُ المعنى على الطيرانِ ثانيةً /‏‏ كأَنَّكَ قادرٌ بالفعلِ أَنْ تخطو /‏‏ على دربِ السحابةِ من جديد»؛ تلك الأنا التي تفقد المشاعر ذاتيتها برقة القلب («كم نظلُّ نراقبُ خلفَ البعيدِ /‏‏ فراشاتِ أرواحِنا /‏‏ وهي تصعدُ فوقَ هديلِ الحمام». شمس أغسطس)، وتعهد «لفراشتها الموشومة بالحب» الندم، والمرارة، والإحساس بالوحدة، عبر أبيات تمس الروح: أنا لست أعنيها تماماً عندما /‏‏ جلست قريباً حيث طاولتي /‏‏ بركن الحانة الخلفي /‏‏ لم تأبه بفوضى عزلتي /‏‏ تلك التي ارتسمت على كفيَّ حين تشبَّثا بسجارةٍ /‏‏ راحت تمدُّ لها حريقاً من دمي /‏‏ رحل الدخان قصائد بيضاً ليمسح /‏‏ حزمة الضوء التي انسكبت /‏‏ لتفضح غيمة الوله المهيب أمام عيني (ركن).

بقراءة هذه المجموعة، ينخرط المرء في شعرية تأتي كشهادة من الروح، كتهجئة للذكريات، ولمشاعر حب اتقدت وفُقدت، كلون غروب الشمس. تمثل الأبيات خبرة الإنسان، وتجربة تمر، بفرحها وألمها، في وزن الصور الشعري، وتناغم الفقرات.