-A +A
محمد محسن
إزاء الأحراش التي تمتد على جانبي وادٍ ضيق في الريف الجنوبي ثمة تلة صغيرة ترتفع كبتلة نافرة وتطل بكتفيها على الحقول المنبسطة بسنابلها البدينة التي تتمايل بطمأنينة كلما هب النسيم، وهناك في أعلى التلة كنت أقف مستنداً إلى سارية تشمخ كمسلة فرعونية، شاخصاً ببصري نحو الخيط الرفيع الذي يفصل زرقة السماء عن الجبال البعيدة.

تظن الطيور أنني إنسان لأن لي جسداً يشبهه فيما تعتقد الأشجار أني إحداها لأني أقف على ساق واحدة، لكن هذا لا يهم فهو يأتي على نحو اعتباطي وما يربطني بهما هو العمل الذي أقوم به.


وبالرغم من التفاني في أدائه فقد بقيت لأعوام طويلة كالفراغ لم يلتفت إلي عدا طفلة حاولت أن تجذبني ذات صباح بعيداً عن المطر الذي كان ينهمر بغزارة وحين لم تستطع عادت مساءً لتنقر جسدي بأصابعها الغضة حتى تتبين ماهيتي، والفلاح الذي كان يتفحصني بنظره ليتأكد من أني لن أسقط.

في الأسابيع الأولى كنت أشعر بالغربة والخوف من الظلام، ولكن شيئاً فشيئاً ألفت المكان والعتمة وأصبحت سعيداً على نحو ما فما أن يتسلل النور من خلف الجبال الشاهقة وتتهادى النسائم بتهاويد الطبيعة الناعمة حتى يشع وجهي بالضياء وأشعر بالانتشاء فأطلق عيني مقتفياً أثار الماعز في السفوح الخضراء صعوداً عبر المنحدرات المتعرجة نحو المراعي البعيدة ولا ألبث حتى يتوافد الفلاحون إلى الحقول فيدب في الانحاء نشاط نفاذ.

تتعالى أصوات الأمهات وينشب عراك الصبيان ويذيع نباح الجراء ويموج الفضاء بأهازيج الفلاحين ويبقون كذلك حتى إذا ما أتى المساء دلفوا عائدين وقد حملوا الصخب إلى منازلهم.

وحين يملأ الظلام أخاديد الطبيعة كنت أغفو واقفاً كحصان لأستيقظ باكراً وأعاود الكرة.

والحقيقة أن ليس ثمة ما أشعر به حيال الوقت فما تنضوي عليه حياتي هو بقائي حيث يضعني أحدهم دون حراك لكن عيني كانتا سعيدتين وهما تراقبان كل ذلك ورغم سعادتي لم يغب عن ذاكرتي حينما كنت طفلاً أرتدي ثوباً من القطن الخالص وأقف منتصباً على واجهة أحد المحال وقد سُلطت الأضواء علي.

كنت أرى الفقراء يحثون خطاهم حين يمرون بي كي لا يراني أطفالهم وألمح في عيونهم عجزاً وانكساراً يرتعش أمام إلحاح الحاجة.

وحين استبدلت بـ(مانيكان) آخر ألقى بي البائع في حجرة خلفية إلى جانب آخرين، وهناك بدت الحرارة وقلة الأكسجين كمركب كيمائي يذيب جسدي ويصيب أحشائي بالانكماش حتى ترهلت تضاريسه وبدا أني أشيخ وحينذاك رُمي بي إلى جانب حاوية المخلفات حيث مكثت لأيام قبل أن تتوقف إزائي شاحنة قديمة ترجل منها شاب كث اللحية مفتول الذراعين تفوح من ملابسة رائحة الطين وسار نحوي ثم أمسك بذراعي وقذف بي فوق المعاول والفؤوس في مؤخرة الشاحنة ومن ثم سار بي لساعات حتى موطني هذا حيث أصلح ما لحق بي من تلف وملأ أحشائي بالقش فعدت فتياً مشعاً.

لم أكن أضجر فما أن يتسلل الضجر إلي حتى أتذكر ما آلت إليه حال أخوتي وكيف أصبح بعضهم هدفاً لسيوف المتدربين التي مزقت أجسادهم ووُظف آخرون كفرائس محتملة لحيوانات ضارية فلا أعود ضجراً.

كما أن ليس لي قلب ولا أوردة ولا دم يسري به الإدرنالين ذات غضب ولذلك فإن قسوتي على تلك الطيور المهاجرة التي تبدو أسرابها كالغيوم الناشئة وهي تعبر السماء أمر لا يؤرقني كما أن تجاسر طائر ما وتجاهله لوجودي لا يثير حفيظتي.

حينذاك كان إغواء الطبيعة لا يقاوم فالسماء سخية بالأمطار والآبار غنية بالمياه والجبال مغطاه بالعرعر والزيتون البري والحقول تكتظ بمحاصيل متنوعة.

كان الفلاحون كرماء فهم يجودون بثلث ما يجنون على الفقراء الذين يأتون إناء الحصاد ليصطفوا إلى جانب السارية فتمتلئ أجوالهم بالقمح وبعض اللوز وسلالهم بالخضراوات ومن يتخلف تُحمل إلى منزله أجوالاً وسلالاً مماثلة، وهكذا سارت الأعوام حتى ظهيرة أحد الأيام من أواخر شهر مايو حين كان الفلاحون يرددون أهازيج الحصاد فيما تهوي مناجلهم مجندلةً سنابل القمح التي تكسو أديم الأرض برداء ذهبي آسر، توقفت عربة بيضاء رُسم على جانبها ورقة خضراء وكتب عليها اسم شركة أغذية إلى جانب أحد الحقول وترجل منها رجلان يرتديان بذلتين رماديتين يحمل أحدهما حقيبة من الجلد الرديء كانا قد حضرا لتوقيع عقود شراء المحاصيل من الفلاحين بدءاً من ذلك العام، ولم يلبثا حتى دلفا عائدين نحو المدينة بعد أن ظفرا بما أرادا وعلى عكسهما لم يحصل الفقراء على ما اعتادوه فعادوا خاليّ الوفاض يعتصر قلوبهم ألم الفاقة وتثقلها خيبة الأمل.

قلة من الفلاحين كانوا يهتمون لذلك لكنهم لم يلبثوا حتى مضوا دون أن يلتفتوا إلى السلال الفارغة التي تركها الفقراء إلى جانبي.

بدا المحصول ضئيلاً في ذلك العام وفي العام الذي يليه بدت السنابل هزيلةً منطفئةً وفي العامين التاليين كانت المحاصيل قد تناقصت والغيمات ازدادت حبسة والآبار نضبت وبدا أن الأرض تتمرد على الفلاحين الذين اضطروا إلى تقليص المساحات الزراعية كما ابتاعوا أجزاءً من قطعان الماشية حين لم تعد المراعي تفي بحاجتها من الكلأ وعزف كثيرون عن الزراعة ونشطت الهجرة نحو المدينة وهزمت الشيخوخة من بقيوا فلم يعودوا قادرين على أعمال الفلاحة.

بقيت هناك وحيداً شاخصاً نحو الحقول وهي تشيخ وتكتسي بأشجار السمر والسلم والأراضي وهي تجدب ورأيت نباتات القطف وهي تنمو وتتسلق التلة التي أقف عليها لتطوق قدمي وشعرت بجسدي وهو يهترئ والسارية وقد بدأت تهتز مع هبوب الرياح إلى أن اجتاحت الريف عاصفة هيجاء فاقتلعتها وأسقطتنا معاً فوق الأشواك أسفل التلة وبعد أسابيع كانت قد نمت عبر جسدي وأخذت تمزقه.

ومكثت على حالي لعامين كان الهواء يقتطع ما ثقف من جسدي ويذروه في الفضاء وشيئاً فشيئاً لم يتبق مني سوى جزء عالق تحت نبته قطف وفي كل هجرة كان يحط عليه طائر ما لينقره بحثاً عن عود قش.