د. نايف الجهني
د. نايف الجهني
-A +A
د. نايف الجهني
كلما تناولت الورقة والقلم وأنا الذي لم تأخذني الأجهزة والكتابة بعيدًا عن احتضان الورقة والركض بالقلم في طرقاتها البيضاء الشاسعة التي أشعر بأنها تمنحني أفقًا رائعًا لركضي في فضاءاتها، وسبر غور أوديتها بحثًا عما يمكن أن يكتب ويكون حالةً من التأمل والنظر والنقاش..

كلما تناولت هذه الورقة ونمت في داخلي فكرةٌ من بذرةٍ في تأملٍ في شيءٍ ما أشعر أنها تتشكل أحيانًا بصيغةٍ غير كاملة؛ ربما لم تصلح بعد لأن تكون فضاء لحوارٍ ما أو تأملٍ خارجيٍ ما، كلما أجريت هذا الحوار الروحي مع الفكرة تقافزت أفكارٌ أخرى على حواف البياض لتلطم القلم قليلًا؛ لتمنعه من أن يجتاحها هكذا دون مقدمات، أعني بذلك أن هناك أفكارًا لا يمكن للقلم والرؤية الرتيبة أن تجعل من المعاني احتفالًا يليق بما تتضمنه وكلماتٍ تلبسه ثوبًا يليق به أيضًا، هناك أفكار لا بد أن تناقش في خضم هذا العالم الذي يتمدد بشكلً ملحوظ نحوالأعلى، نحو اليمين، نحو اليسار، أو للأسفل، ربما لا أدري، ولكنه يتسع ويتمدد معرفةً ووعيًا وإحساسًا ويدفع الكثير من سكانه إلى التأمل وإلى النظر في زواياه بحثًا عن معنى وعن مشهد يمكن أن يرسم في أذهانهم ومخيلاتهم الطريق إلى الحقيقة.


الفكرة التي أود طرحها هنا تأتي في سياق هذا الاتساع لهذا العالم، خاصةً ونحن نعيش حالة من التمدد في اتجاهات مختلفة ونوجه قوافلنا للسير نحو المستقبل، ولكننا نطرح سؤالًا مهمًا لا يتعلق بالمؤسسات الرسمية ودورها التي قامت به على أكمل وجه في الطريق نحو تشكيل أبعاد وملامح السير عبر هذه الرؤية؛ لتكون واقعًا في هذا العالم الخارجي الذي نعيشه، ولكنني هنا أتحدث عن الدور الفردي الذي يمكن أن يكون جماعيًا، لدفع عجلة هذه الرؤية نحو المستقبل، ولعل الوعي يكون هو الأداة والمحور الأساسي في هذه العملية كونها فكرة أو باعتبارها فكرة تنبع من رؤيةٍ داخلية لشخص أراد أن يصنع هذا التحول وأن يقود القافلة نحو منعطفٍ جديد وهي أيضًا محملةً بتراثها التي استلهمته ولم تحنطه لتتفرج عليه، بل كان استلهامها له سبيلًا داعمًا للتقدم نحو الضوء الذي يتلألأ في أعالي الحلم، هذا الوعي الذي يرتبط كثيرًا بحالة التغير الفكرية والنفسية لدى الفرد الذي يريد أن يعيش في هذا العالم، بآدواته المعرفية والإنسانية الحديدة.

فهذا الوعي يتطلب كثيرا من الأدوات والمضامين التي يمكن أن تجعله فاعلًا في هذه التجربة، ويمكن أن يكون هو محور نجاحها، إذا تشكل بالصورة التي يطمح إليها من وضعوا هذه الفكرة، فكرة القفز بحالة الوعي وحالة المجتمع وحالة البناء الذي يعيشه الوطن في مختلف الاتجاهات.

إن لم يتغير وعي الفرد ولم يستثمر إمكاناته الروحية والمقصود بالروحية هنا، الحالة (المعنوية)، وأفكاره الخارجية والداخلية التي تشكل هوية وجوده، ويجعل من هذا الاستثمار قاعدة ينطلق بها إلى أعلى، ويخرج الفرد من النفق الذي يمكن أن يكون به الشد إلى الوراء أكثر من الدفع إلى الأمام.

ولعل الإرث الذي نحمله معرفيًا واجتماعيًا وحتى الثوابت الدينية كشيءٍ مبدئي يمكن أن تجعل هذه الخطوات أكثر تسارعًا وأكثر قدرة على إنتاج الثمار.

هذا الطريق يحتاج إلى الوعي الذي يكون قابلًا لتلقي الآخر وتقبل الآخر وبالدرجة الأولى تقبل الذات نفسها، ولعل الأحاديث التي تدور حول تطوير الذات وتطوير الوعي تحتاج إلى أن ينظر إليها بشكل جاد، وأن يتم التعامل معها بصورةٍ عملية لتحقيق هذه القفزة التي كانت قفزةً على المستوى الرسمي ولا بد أن تكون تواكبها قفزةً على المستوى الشخصي، انطباعات الناس أفكارهم آراؤهم تصوراتهم عن هذا العالم لا بد أن تتغير، نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى المحيطين وإلى الأطراف التي تشاركه الحياة مهمة من خلال تحقيق التناغم مع الجديد والسير مع النهر بتدفق دون مقاومته؛ لأن أي مقاومة يمكن أن تخلق شيئًا مناقضًا قد يمنع تدفق تيار الحياة في شريان هذا العمل، ويمكن أيضًا أن يعمل على تدريب هذا الإنسان الجديد على العيش بطريقة جديدة والتي ربما فرضتها ظروف هذه الجائحة التي نعيشها وجعلت الكثيرين من أهل التأمل ينظرون إليها بعمق ويستلهمون ما حملته من مضامين يمكن أن تقود إلى حالة مشرقة من الحياة والتفاعل مع هذا العالم.

في مجتمعنا نحتاج إلى تطوير هذا الإنسان إمكاناته المعرفية عن ذاته. عن حالة عيشه في هذا العالم الوسط (الشرق الأوسط)، وهو ابن الدين الذي جاء ليكون نقطة التقاء بين مادية الغرب وروحية الشرق؛ ليحقق الواقعية والوسطية في المزج بين كل ما هو روحي ومادي والتعامل مع الحياة بواقعية أكثر، وأيضًا بتقبل كل ما يطرأ من تجارب وما ينمو في آفاقه من أغصان يمكن أن تفضي إلي فضاءات أكثر جمالا ورحابة.

يمكننا هنا أن نقول: إن علينا في وزارة الثقافة في هيئة الترفيه في أي جهة يمكن أن تتبنى هذا الأمر أن نهتم بصناعة وعي الفرد وتمكينه من اكتشاف أدواته المعرفية والمهارية والإبداعية، وجعله يسير مع هذا النهر بكل انسيابيه ودون توتر أو قلق أو حتى تصادم مع القناعات التي يمكن أن تكون حديثه عليه، خاصة إذا ما عرفنا أن المثقف الحقيقي، والإنسان الفاعل هو الذي يستوعب كل ما هو جديد ويتفاعل مع الأفكار حتى وإن كانت لا توافق منهجيته.

هذه النقلة النوعية لا بد أن تحدث في وعينا السعودي، ولا بد أيضًا أن نؤمن أن الدين الإسلامي الذي حفظ لنا المبادئ، وحفظ لنا القيم، وحفظ لنا وجودنا على هذه الأرض، لا يمكن أن يتعارض مع هذا الاتساع الذي أصبح طبيعة للكون وحالة واقعية له.

كل هذا لا بد أن يكون في مخيلة من يعيش في هذا العصر، ومن يدخل هذه المرحلة خاصة في هذا المجتمع الذي أجزم بأنه سيكون قادرًا على مسك العصا كما يقال: من المنتصف؛ لأنه يعيش في أرض الدين الوسط وأرض الدين الذي جاء ليجمع بين الثقافة الروحية والمادية بشكل متوازن، وهذه القدرة على جمع هاتين الحالتين يمكن أن تكون هي أيضًا منعطفاً في وعي العالم كله، لتستمر الرسالة وتواصل تدفقها على طرق الحياة باتزان كامل، مدركةً أن الجميع يعيشون وفق نسيج واحد، ولا يمكن لأي كائن أن يعيش فيه منفصلًا عما حوله... وبالتالي يؤمن بقدرته علي أخذ البشرية إلى عالم مزدهر، يعيش في تألق وسلام.